عكست الأغنية في تراث وتاريخ جبل العرب، العلاقة الوجدانية بين الأرض والفلاح من خلال الكلمة واللحن المنسجم مع تلك العلاقة، فباتت الأغاني التي يرددها الفلاحون والعاملون في مختلف الأعمال الزراعية، بدءاً من بذر حبة القمح حتى إيداعها في حاصل المؤونة، حالة من العطاء المتبادل بين الأفراد والأرض، وفق أنغام موسيقية على مقامات متنوعة، يقيناً أن المحراث بإيقاعه يولد حالة إبداع.

ومن الناحية الفنية فإن الكثير من تلك الألحان التي غنت بعد توزيع موسيقي لها مناسب بأصوات مطربين استطاعوا من خلال تلك الأغاني تحقيق نجومية خاصة، مثل المطرب فهد بلان الذي غنى أكثر من مئتي أغنية من تراث جبل العرب؛ وفريد الأطرش الذي قام بتلحين العديد من الأغاني له من التراث، ومن منا ينسى ما صدحت به اسمهان بموالها /يا ديرتي مالك علينا لوم/، وهي جميعها من عيون التراث.

يبدأ الفلاح بنثر حبوب القمح على وجه الأرض من قبضة يده مع قوله "أنا العازق وربي الرازق"، ثم يشق الأرض بمحراثه لطمر تلك الحبوب، فيغَدو موسمه الزراعي والذي ترتبط به حياته مرهوناً بكرم السماء، فإن أمطرت وكان مطرها كافياً يكون موسمه جيداً ويكفي لتأمين حاجاته الغذائية والكسائية، وإن شح المطر، فإن آماله تطمر مع حبة القمح، ولهذا فإن بين بذر حبة القمح وطمرها تحت التراب وتناولها خبزاً، رحلة طويلة من العناء والعرق والجهد والصبر والأمل والدعاء من أجل توفير لقمة العيش

ترانيم المحراث

يقول الباحث التراثي والموسيقي "سلمان البدعيش" في حديثه للمدونة: «يبدأ الفلاح بنثر حبوب القمح على وجه الأرض من قبضة يده مع قوله "أنا العازق وربي الرازق"، ثم يشق الأرض بمحراثه لطمر تلك الحبوب، فيغَدو موسمه الزراعي والذي ترتبط به حياته مرهوناً بكرم السماء، فإن أمطرت وكان مطرها كافياً يكون موسمه جيداً ويكفي لتأمين حاجاته الغذائية والكسائية، وإن شح المطر، فإن آماله تطمر مع حبة القمح، ولهذا فإن بين بذر حبة القمح وطمرها تحت التراب وتناولها خبزاً، رحلة طويلة من العناء والعرق والجهد والصبر والأمل والدعاء من أجل توفير لقمة العيش».

سلمان البدعيش

الأمل بالغناء

شاب يحرث وهو يغني

ولا بد للعاملين في الزراعة من ترديد الأغاني المختلفة التي تروح عن أنفسهم، وتبعد عنهم الملل وتنسيهم التعب، أو تحثهم على بذل مجهود أكبر.

وعن الأغاني المرافقة لحراثة الأرض يشير "البدعيش": «يردّد الفلاح الذي يحرث الأرض بعض الأغاني التي تبعد عنه الملل، معبراً بها عن المجهود الذي يبذله والعناء الذي يجده، ويتمنى لو ينتهي النهار الطويل الذي يعمل فيه مع كثرة همومه الأخرى، فيقول مثلاً:

الحراثة والتكافل

ياما طولك يا يومي ياما صعبك ع الغربة

ياما طولك يا يومي

كثر التراب همومي وأظلم علي دربي

كثر التراب همومي

وأني على فداني كل الحراثي حلت

وأني على فداني

عيني على فداني كل الحراثة حلت

عيني على فداني

وصويحبي ما جاني غاب القمر يا يمّ

وصويحبي ما جاني

غزلان يا ثيراني والسكة مطرق فضة

غزلان يا ثيراني

والبارحة بالليلِ دور على عشيري

والبارحة بالليل

بخسارتك يا عمري كلّو شقا وتعثيري

بخسارتك يا عمري.

وثمة -حسب "البدعيش"- أغنية عن نباتات الوحواح وظهور زهرتها التي تنشر التفاؤل، فيدعو الفلاح أن تمطر مبكرة لترتوي الأرض وهو يغني لها:

طلعت زهرة الوحواح شـــد عـــودك يا فــــلاح

إن شاء الله بتشتي بكيـــر ويصيروا الرّيّات ملاح

طرب حماسي

الأديبة والشاعرة "ربيعة غانم" عضو اتحاد الكتاب العرب- مسؤولة قسم التراث في مديرية الثقافة، تشير إلى أن الأغاني التراثية التي كانت تستخدم في عمليات الحراثة، هي رحلة يعيشها الفلاح مع إنتاجه وعمله وأرضه، فيها يكتسب ناحيتين، الأولى الإبداع في انتقاء الكلمات الغنائية ذات الدلالات والعلاقة بالعمل الزراعي وطريقة الحراثة، والثانية الصوت الذي يحمل خصوصية في تبديد ساعات العمل الطويلة والتعب والجهد اللذين يبذلهما الفلاح للحصول على الغلال، وهو مؤمن بما قُسم له نتيجة لإيمانه المطلق من البداية والذي حدده بقوله "أنا العازق والله الرازق".. هذا في البذار، وأثناء الحراثة تراه يعتمد على التطريب الاجتماعي بصوته وكأنه يدعو جيرانه من أصحاب الأملاك الزراعية للقيام بحراثة أرضهم، وهذه الأنغام المشتركة بالترديد فيما بينهم تشكل وحدة متكاملة في التكافل والتنمية.

مضيفة: تراث جبل العرب زاخر بذلك حينما كانت تجتمع الناس في مضافاتها وتداول الأمور الزراعية والشعراء يقدمون الكلمات المعبرة.

إيقاعات متنوعة

وبين الموسيقي "يحيى رجب" مدير معهد الموسيقا بالسويداء أن الأغاني الشعبية حملت بين خصوصيتها الطابع المحلي والبيئة المحلية، إذ كثيراً ما صدح مطربون عرب أمثال فهد بلان وفريد الأطرش واسمهان وداوود رضوان وغيرهم بالكثير من الأغاني التي ألحانها ناتجة عما كان يصدح به الفلاح أثناء الحراثة، وذلك لأسباب متنوعة أهمها التنوع المقامي واستخدام طبقات صوتية مميزة في القرار والجواب، والتطريب المغنى ومن علامات التطريب الشعبي حينما يتم أداء تلك الأغاني في الحقل ومن وراء المحراث إعادة وتكرار جملة أو مقطع غنائي، كأن يقول:

ياما طولك يا يومي ياما صعبك ع الغربة

ياما طولك يا يومي

كثر التراب همومي وأظلم علي دربي

كثر التراب همومي

ويتابع رجب كلامه: تكرار المقطع الأول مثل /ياما طولك يا يومي/ أو في المقطع الثاني /كثر التراب همومي/ بأنغام وإيقاعات الدارس لها علمياً وفنياً يشعر بالبعد النفسي والاجتماعي والبيئي وربما أكسبت الفلاح خاصية إبداعية جديدة في الصوت والأداء والعلاقة والقناعة في الإنتاج الزراعي، والأهم أن كل مرحلة من مراحل الأعمال الزراعية في جبل العرب لها أغانٍ خاصة وهي الجزء الأهم من تراثنا الشعبي.

.