تأتي مدينة "حلب" في طليعة المدن السورية التي نشط فيها الفن المسرحي خلال العقدين الماضيين من خلال الأعمال الكوميدية والاجتماعية والناقدة التي قدمت على خشبات مسارحها المتعددة،حيث بقيت تلك الأعمال عالقةً في أذهان الجميع رغم تواضع الأدوات والإمكانات المادية في وقتها.

موقع وتاريخ

لعب الموقع الاستراتيجي المهم لمدينة "حلب" كمركز وملتقى اقتصادي وتجاري وثقافي وفني ونقطة ارتكاز واستراحة وعبور للقوافل التجارية، دوراً مهماً في نقل فن المسرح إليها وتطويره، فضلاً عن زيارة مئات الفرق المسرحية لها مثل فرقة "سلامة الأغواني" في عام 1911، وكذلك فرقة "جورج أبيض" وفرقة "يوسف وهبي" في عام 1929، حيث قدمت مسرحية "كرسي الاعتراف وراسبوتين" على مسرح الأزبكية وسينما دنيا، وحضرت فرقة "أمين عطا الله ونجيب الريحاني وعلي الكسار وزكي رستم وسمير غانم"، حيث قدم على مسرح سينما غرناطة مسرحية" المستخبي" كان ذلك في عام 1993، وغيرها من الفرق، كل ذلك ساهم في تطوير ونهضة فن المسرح بالمدينة، وحسب المعلومات فإن أول ولادة للمسرح الحلبي كانت في عام 1842، على يد الفنان "يوسف نعمة الله جد" بمسرحية عرضها على مسرح المدرسة المارونية، وفي عام 1921 أنشأ عدة شباب من الأرمن الوافدين من "كيليكيا" فرقة مسرحية سميت "انترانيك".

رجال المسرح

الممثل المسرحي "نديم شراباتي" مواليد 1929، يروي للمدوّنة ذكريات حياته الطويلة في عالم الفن المسرحي ويقول: <<كنت من الرواد الأوائل للعمل المسرحي في "حلب" حيث تعود بي الذاكرة إلى أربعينيات القرن الماضي، من خلال المشاركة بمسرحية "وأخيراً تحررنا" والمقصود بها كان التحرير من الاحتلال الفرنسي، العمل كان من تأليف "أحمد كيالي" وشارك معنا بالتمثيل كل من المحامي "منير داديخي" و"كمال مولوي" و"مأمون الجابري"، ومثّل الدور الأنثوي "زياد منقاري" لعدم وجود فتيات مسموح لهن بالتمثيل في تلك الفترة، المسرحية مدتها ساعة كاملة عرضت لمدة أسبوع على مسرح "سينما الريو" وحضرها جمهور غفير، وبعدها قدمنا مسرحية "ابنتي في البار"، ثم في عام 1951، أسسنا فرقة دار الندوة للعمل المسرحي، وبعدها فرقة شباب العروبة، واشتغلنا مسرحية "عائد من القبر" عرضت على مسرح صالة الأزبكية أخذت فيها دور العم عبدو، ثم بدأنا عملنا بالمسرح الشعبي، وشارك معنا الفنانون المطربون "محمد خيري" و"مصطفى ماهر" و"بهجت حسان" و"محمد أبو سلمو" و"نديم الدرويش" و"سليم قطاية"، وقدمنا في الملعب البلدي "مسرحية العرس الحلبي"، وعلى إثر هذا العمل كرمتنا وزارة الثقافة بالسفر إلى "مصر" لمدة شهر وسافر معنا "أحمد عداس" و"عمر حجو" و"محمد طرقجي" و"بدر المهندس"، وفي عام 1968 أسسنا فرقة مسرحية مع المخرجين الثلاثة "حسين إدلبي" و"بشار القاضي" و"ظريف صباغ"، وشارك معنا بالتمثيل "الراحل عبد الوهاب جراح" و"رضوان عقيلي" و"أديب قدورة" و"ثراء وثناء دبسي" و"فاتن شاهين" و"سعدية غريب" و"فؤاد الراشد"، وعملنا مسرحية "إنسان فكر يضحك" ذهب ريعها للمجهود الحربي، وكانت قيمة بطاقة الحضور ليرة في الأمام ونصف ليرة في الصفوف التي تليها، وبعدها وفي فترة الثمانينيات عملت بالمسرح القومي وبالمسرح الخاص واشتغلنا مسرحية "حلبي وبيدونة وأمبير"، وفي عام 2017 اشتغلت "مسرحية الدب يغادر مدينة الفرح"، وآخر أعمالي المسرحية كان في عام 2020 مع المخرج "صالح السلتي" بعنوان "أصحاب الهمم ذوي الاحتياجات الخاصة">>.

الكاتب المسرحي "محمد أنمار حجازي"

ويختم المسرحي "شراباتي" ذكرياته بتكريمهم من قبل وزارة الثقافة في عام 1985 بدفع نفقات سفرهم إلى "تشيكوسلوفاكيا" مع عشرين فناناً مسرحياً منهم الراحلون "عبد اللطيف فتحي" و"محمد طرقجي" و"تيسير السعدي".

المسرح في مائة عام

يقول الممثل المسرحي "محمد هلال دملخي" في مؤلفه "مسرح "حلب" في مائة عام": <<لعبت الفرق المسرحية التي زارت "حلب" دوراً كبيراً في إنشاء المسرح المحلي، ومن أهم تلك المسارح كان "مسرح المدرسة العربية والفاروقية والشرقية ومقهى البلاط والنصر والشهبندر" مع الإشارة إلى الدور المهم التي لعبته الفرق المسرحية المدرسية التي ساهم فيها أساتذة وطلاب ومثقفون، حيث قدمت مسرحيات مهمة مثل "الرشيد" و"طارق بن زياد" و"صلاح الدين الأيوبي" و"خالد بن الوليد".

صورة أرشيقية مسرحية وكتاب المسرح الحلبي في مئة عام

ويشير الكاتب إلى مصطلح "الكبوشة" باللغة الإيطالية وتعني المكان الخشبي الذي يجلس فيه "الملقن" ويهمس فيها للممثلين ومع مرور الوقت التغى دوره وأصبح الممثل يعتمد على نفسه في حفظ دوره وإن احتاج للتلقين فيمكن إسعافه بالكلام من خلف الكواليس.

شيخ الكتاب المسرحيين

"عبد الفتاح قلعجي" 84 عاماً يقول للمدوّنة: <<كتبت خلال مسيرتي أكثر من 85 نصاً مسرحياً، بدأت بمسرحية بعنوان "هل قتلت أحداً" عرضت بمسرح الفيض وكانت من إخراج "مروان فنري" ثم تلتها مسرحية "الفصل الثالث" وعرضت على مسرح سوق الإنتاح في عام 1969، وبرع في تلك الحقبة المخرجين "إيليا قجميني" و"انس بندك" و"حسين أدلبي"، ولدي 54 كتاباً نقدياً في الأدب المسرحي، وآخر مطبوعاتي المسرحية كانت في عام 2021 بصدور كتاب يتضمن أربعة نصوص مسرحية في دار نشر بـ"الشارقة" ومثله من دار نشر مصرية.. لم تكن هنالك أجور بالمعنى الحقيقي يتقاضها الكاتب والمخرج والممثل، لا بل كان الكل يدفع من جيبه الخاص ثمن ثيابه وتنقلاته وطعامه>>.

الكاتب المسرحي "عبد الفتاح قلعجي والممثل نديم شراباتي"

الممثل المسرحي المتقاعد "جوزيف ناشد" 77 عاماً أستذكر بداياته بالعمل فوق خشبة المسرح بحقبة السبعينيات بفرقة "دار الندوة"، وفرقة "مسرحية عبد المنعم أسبير"، والفرقة الشعبية للآداب والفنون بعرض مسرحية "الاستعمار في العصفورية" مع الزملاء الراحلين "أحمد عداس" و"عمر حجو" و"محمد طرقجي"، ومسرحية "والله جوعان" و"لصوص المجتمع" ثم تسلمه رئاسة المسرح القومي في الثمانينيات حتى مطلع التسعينيات، حيث قدم ما يقارب 40 عملاً مسرحياً، نافياً تلقيه هو وزملاؤه أية أجور، فكل ما كانوا يحصلون عليه من تعويضات عبارة عن مكافأت رمزية رغم جمال وأهمية الأعمال المقدمة.

جردة حساب

الأديب والكاتب المسرحي "محمد أنمار حجازي" يتحدث عن تاريخ المسرح الحلبي بالقول: <<يعود تاريخ بداية العمل المسرحي الحقيقي في مدينة "حلب" إلى بداية القرن العشرين، حيث بدأ الفنانون عروضهم بفن خيال الظل، ومن أهم المسارح الحلبية التي اشتهرت مسرح "اللونبارك" الذي غنى عليه "سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب" مع "مسرح الأزبكية" و"الشبيبة الكاثوليكية" و"مسرح الصحراء" و"مسرح دار الكتب الوطنية" و"مسرح سينما فريال"، كما ظهر مسرح الحكواتي عند الحلبيين بداية عصر النهضة في مقاهي "قسطل الحرامي" و"قسطل المشط" و"مقهى جقيص" و"باب الحديد"، ولعبت تلك النماذج المسرحية دوراً رئيساً في انتعاش الحركة الفنية، وعموماً فالمسرح إلى جانب حلقات الطرب والقدود كانت له نكهة من نكهات الليالي الحلبية، فكان الفنان "فاروق المدرس" السبّاق إلى تقديم مسرح الحكواتي وطقوسه الشعبية مع الفنانين "عبد القادر مكتبي" و"نديم شراباتي" و"نجم الدين جمالي">>.

ويضيف: <<ازدهرت الحياة المسرحية على يد خيرة من الكتاب والمترجمين الحلبيين وفي مقدمتهم "القس باسيل بن توما بن جرجس أيوب"، الذي كان يعمل مراسلاً "لجريدة البشير" البيروتية، إذ أسس "نادي شبيبة السريان الكاثوليك" في منزله الخاص، وقدمت الفرق الحلبية فصولاً من الضحك المتواصل كان أشهرها مسرحية "قاضي الولاد شنق حالو"، أعقب ذلك تأسيس "فرقة المدرسة العربية الإسلامية" التي أسسها الفنان "عبد القادر الشوا" عام 1919، بالتعاون مع خيرة من المدرسين الحلبيين من أمثال "عبد الوهاب الصابوني" و"وجيه رفاعي" و"أسعد كوراني" و"صالح مارديني" وآخرين وقدمت هذه الفرقة مسرحيتها الأولى بعنوان "صلاح الدين الأيوبي"، وكانت هناك فرقة "مسرح الشبيبة الأرمنية" التابعة للجمعية العمومية الأرمنية ولعبت دوراً بارزاً في تكثيف العروض المسرحية على خشبات المسرح، حيث كان مقرها في "جادة الخندق" ثم في "شارع بارون" إذ تأسست على يد الفنان "آرام بارونيان" والفنانة "آرا أصلانيان"، فقدما باكورة نشاطهم في "مسرحية الوصية"، ومن الفرق الأكثر تأثيراً في حركة المسارح الحلبية كانت الفرقة القومية للتمثيل التي تأسست عام 1937 وهي امتداد لفرقة المدرسة الشرقية التي تميزت بنخبة من الفنانين القديرين بإدارة "فاتح غضنفر" حيث قدمت الفرقة عروضها أمام الرئيس الراحل "شكري القوتلي" على مسرح سينما العباسية وتم نقل العرض آنذاك بالمذياع لأول مرة في "سورية">>.

ويشير إلى دور المسرح القومي في إغناء الحركة المسرحية عبر أعمال "كريكور كلش" و"إسكندر كيني" و"إيليا قجميني" و"حسين الإدلبي" و"عبد الفتاح قلعجي" و"رضوان السالم" و"عمر حجو" وآخرين مهدوا فيما بعد لتأسيس فرق مسرحية حلبية خاصة مثل "فرقة المهندسين المتحدين" عام 1990.

ويذكر أنَّ مدينة "حلب" قد عرفت أشكالاً ثلاثة (على الأقل) من الأشكال المسرحية المعترف بها وهي: صندوق الدنيا، مسرح الحكواتي، و(كراكوز وعيواظ) مسرح خيال الظل، وفي حقبة السبعينيات شهد المسرح تطوراً، ليس في "حلب" بل في جميع المحافظات، وتأسست العديد من الفرق الرسمية مثل "فرقة المسرح العمالي"، و"فرقة المسرح الجامعي"، و"فرقة مسرح الطلائع"، و"فرقة "مسرح حلب القومي"، و"فرقة رابطة الموظفين"، و"فرقة نقابة المعلمين"، مما دفع بالحركة المسرحية إلى مواقع متقدمة في المهرجانات المسرحية، كالمهرجان السادس والسابع لفرق الهواة المسرحية عامي 76 و77، ثم مهرجان "حلب" المسرحي الأول عام 1997>>.

تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ الثالث والرابع والعشرين من شهر أيلول في دار الكتب الوطنية ومنزل الممثل "نديم شراباتي بـ"حي الجابرية" ومديرية الثقافة بـ"حلب".