تزخر مدينة "سلمية" بالعديد من المزارات الدينية ومنها مزار "الخضر"، الذي يقع على أكمة بارتفاع 150 متر تقريباً إلى الشمال الغربي من المدينة، هناك حيث كانت تقدم النذور من أبناء المنطقة والتي كانت عبارة عن تقديم أضاحٍ تذبح وتطبخ وتقدم للزوار.

الأصل في التاريخ

ولئن تعددت الروايات حول المزار وتاريخه، فإنه lما زال يحظى بأهميته لدى أبناء المنطقة، وحسب قول "رانيا الخطيب" رئيسة فرع الآثار في شعبة "سلمية": <<توجد بعض الأدلة المستنتجة على أن المكان كان ديراً مسيحياً حمل اسم "جاورجيوس"، قبل أن يتحول لجامع، فمن المعروف أن المسيحية انتشرت في "سورية" بين القرنين الرابع والسادس، وشمل هذا الانتشار منطقة "سلمية"، وورد في بعض المصادر أن بعض الورعين من النساك المسيحيين في ذلك العصر لجؤوا الى المغاور أولاً ومن ثم إلى بناء الأديرة إلى جانب الكنائس، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد أن دير "جاورجيوس" تم بناؤه ضمن الفترة المبكرة من الأديرة التي بدأت منذ أواخر القرن الرابع، بعد الانتقال من مرحلة اللجوء إلى مرحلة المغاور، وهذا يدل على وجود مغارة كبيرة في السفح الغربي من أكمة "الخضر" والتي تتضمن كتابات يونانية على بعض الأحجار>>.

وتضيف "الخطيب" أن الآثار الباقية من الدير، تظهر وجود قاعة تحولت في العهد الإسلامي إلى جامع من الجهة الجنوبية المطلة على "سلمية" بطول 7,70 أمتار وعرض 4,50 أمتار، وكانت الأديرة تقام عادة على مسار الطرق التجارية، لتكون محطات لراحة المسافرين ولسهولة التزود بالماء، لذلك بُني في هذا المكان على مسار الطريق الممتمد من "طرابلس" على ساحل البحر باتجاه الداخل، حيث يمر من "حمص" ثم "الرستن" و"الرصافة" فـ"سلمية" فـ"إثريه" ومنها إلى "حلب".

الباحث التاريخي أمين قداحة

الطراز المعماري

جانب من مقام الخضر

كان مدخل مقام "الخضر" في الجهة الشمالية، مكون من عمودين بتضليع حلزوني، وتشير "الخطيب" إلى أن البنائين المسلمين استخدموا في البداية أعمدة كانوا ينقلونها من الكنائس والمعابد، ثم اتخذوا أعمدة وتيجاناً من مبتكراتهم، فعرفوا الأعمدة ذات البدن الأسطواني المضلع تضليعاً حلزونياً، وهذا النوع لم يستخدم في "سورية" إلا ابتداءً من العصر الزنكي،

وتلى ذلك على الأرجح بناء جامع "الخضر" في الفترة الأيوبية، وبالتحديد في الفترة التي أعيد فيها بناء جامع "الإمام إسماعيل" وذلك لسبب تماثل طراز البناء، وتماثل المواد المستخدمة في البنائين، ومن خلال المقارنة بين بقايا الجدار الشرقي لمقام "الخضر" مع منظر الجدار الشرقي من بناء جامع "الإمام إسماعيل" الحالي، وأيضاً من نوع المقرصنات التي زين بها سقف المحراب والتي تشبه الشكل الذي يزين ذيل الطاووس، وقد استعمل هذا النمط بدءاً من القرن الخامس الهجري في الشام.

صورة توثيقية لمقام الخضر قديمة

وتوضح "الخطيب" أنه وحسب ما ورد ذكره من قبل أناس عاصروا فترة الخمسينيات من القرن الماضي، بقي من قاعة الجامع جدران بعلو أربعة أمتار تقريباً، ويوجد شباك في الجدار الشرقي، ومن الجهة الجنوبية يوجد شباك المحراب باقياً كما هو وكذلك مقرصناته البسيطة المعمولة من الجص، ومن الجهة الغربية حائط بعلو مترين مع شباك في الوسط، ومن الجهة الشمالية حائط بعلو أربعة أمتار، ويوجد ضمن الحائط باب عريض يبتدئ بعمودين من الرخام المضلع، تضليعاً حلزونياً يعلوهما قوس حجري، وفي القاعة الكبرى يوجد حائط بعلو متر ونصف المتر ومثله في جهة الشمال، ومن الشرق يوجد حائط بقي منه حوالي النصف متر وبقايا أساس غرفة ضمن القاعة الكبرى، وفي وسط القاعة كانت توجد بركة ماء بقطر مترين.

ولكن لم يبقَ من الجدارن ليومنا هذا سوى بقية من جدار المقام الشرقي والجدار بعلو متر للقاعة الشمالية من جهة الغرب والشمال.

موروث شعبي

من جهته يقول الباحث التاريخي "أمين قداحة": <<تقدم شخصية "جاورجيوس" في التراث الشعبي المسيحي وشخصية "الخضر" في التراث الشعبي الإسلامي، نموذجاً يعطي الرموز القديمة على الدوام بعداً عاطفياً تجعلها مستمرة عبر الشروط المتبدلة، ويقوم الخيال الشعبي بدور خيط المسبحة الذي يجمع الثقافة الإنسانية بعضها الى بعض في تتابع وتداخل ملون بديع، وهكذا استمر تموز الأخضر حياً في الثقافة المسيحية والإسلامية إلى يومنا هذا من خلال شخصية "جاورجيوس" و"الخضر">>.

ويضيف "قداحة": <<"الخضر" هو حسب المعتقدات الدينية نبي حي في كل زمان ومكان، محجوب عن الأبصار إلى يوم القيامة، نراه في القصص الشعبية والروايات جالساً على "طنفسة" خضراء على وجه الماء متشحاً بثوب أخضر ينبت العشب تحت قدميه أينما حل، وكما اختلفت الروايات في تحديد وجوده اختلفت كذلك في اسمه، حيث تتعدد الروايات في ذلك فقيل إن اسم الخضر هو "بليان بن مالكان "وقيل "إيليا" و"المعمر" وآراميا" و"خضرون" و"بيليا" و"أحمد" و"عامر"...الخ، كذلك ذكر أن لقبه هو "أبو العباس">>

جولة أثرية

يقع جامع "الخضر" -كما أسلفنا- الى الشمال الغربي من مدينة "سلمية" على بعد ثلاثة كيلو مترات فوق آخر جبل من سلسلة جبال العلا من جهة الشرق، والمسمى باسمه والذي لا يتعدى ارتفاعه 600 متر أسوة بغيره من جبال هذه السلسلة، ويقول "أحمد وصفي زكريا" في كتابه جولة أثرية: " الزائر لهذا الجامع لا يسعه إلا الاستغراب من الحكمة في بنائه فوق هذا العلو المقفر، إلا أن بناءه البازلتي يؤكد أنه بني بأحجار المباني المسيحية البيزنطية، وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأنه بدأ كخلوة لناسك أو متعبد، وهو أمر مألوف في الديانة المسيحية وخاصة في المشرق العربي، وسرعان ما اتسعت هذه الخلوة وأصبحت ديراً في العصر المسيحي، ثم تحول إلى جامع في العصر الإسلامي، وهنا لا بدّ لنا من الإشارة الى أن أحد النقوش المسيحية التي تم العثور عليها في مدينة "سلمية" تذكر اسم القديس "جاورجيوس" وتعريبها : (باسم الثالوث الأقدس رفع هذا البناء والمصلى للقديس "جاورجيوس" المظفر). وربما تم نقل هذا النقش من ذلك الموقع إبان إعمار "سلمية" الأخير".

أجري هذا اللقاء في 6آب 2022.