يبدو من الإجحاف حصر سيرة حياة الباحث والمؤرخ "محمد قجة" العامرة بالإبداع والتأليف والأرشفة في مادة أو مقال، خشية أن نغفل عن الكثير من محطات حياته الأدبية، ويكاد المرء يحار من أين يبدأ بتوثيق وأرشفة نتاج واحد من أهم مفكري ومؤرخي عصرنا الراهن، وهو الباحث والناشر في الأدب والتاريخ والتراث السوري والعربي، والذي نشر الكثير منه على مدار أكثر من سبعين عاماً.

أرشيف مدينة

بشهادة كبار الشخصيات الأدبية والفكرية في وطنه والعالم، كان "قجة" ولا يزال مبدعاً ومنتجاً في عمله وفكره، وفي دراساته النقدية والتحليلية التي نشرها، ويمكن عدها أنموذجاً ومثالاً يدرس للأجيال القادمة، له الفضل في حفظ وأرشفة العديد من جوانب تراثنا في الأدب والتاريخ والموسيقا، وخاصة تفاصيل الحياة الاجتماعية والشعبية في مدينة "حلب".

دأب الأديب والباحث خلال سنوات عمره الطويلة، على البحث والتقصي حتى تمكن من معرفة أين كان يسكن الشاعر "المتنبي" في مدينة "حلب".

الأديب قجة في صور تذكارية مع الكاتب المصري محمد حسنين هيكل وكبار الشخصيات الأدبية.

سافر إلى شتى أنحاء بلدان العالم في مهام أدبية وعلمية وترأس الكثير من المؤتمرات والندوات وأعطاها توهجاً وتألقاً، وفي سجله مئات الأوسمة وشهادات التقدير والتكريمات وآخرها من مقام رئاسة الجمهورية".

تكريم لائق

يتحدث الباحث لمدوّنة وطن التي زارته في منزله بـ"حي الشهباء"، عن معاني التكريم الأخير ويقول: <<أعتز وأفخر بهذا التكريم وهو ليس لي شخصياً فقط، بل هو تكريم لظاهرة الثقافة بمدينة "حلب" من خلال ذكر اسمي، لأن التكريم يعني اهتمام قيادة الوطن ليس فقط بالبعد السياسي والاقتصادي فقط، وإنما بالبعد الثقافي الذي يمثل الحامل المعرفي والفكري لهذه البلاد ومن هنا كانت قراءاتي لهذا التكريم>>.

الأديب قجة يتحدث لمراسل المدونة بحلب وصور لمدير الثقافة جابر الساجور والدكتور فايز الداية

توهج أدبي مبكر

الأديب قجة داخل مكتبته المنزلية التي تحوي ثلاثة عشر ألف عنوان.

عن سيرة حياته يقول الباحث "قجة": <<ولدت في عام 1939 من أسرة حلبية عريقة سكنت المدينة قبل أكثر من ستمئة عام في "حي قارلق" الشعبي، ومنزلنا يعود إلى عام 1100 هجرية، كما هو مدون على جدرانه، ورغم أن والدي كان من كبار تجار "جادة الخندق" ببيع المواد الأولية للبناء (الخشب والحديد والاسمنت)، لكنه في ذات الوقت كان رجلاً مطلعاً ومحباً للعلم والثقافة، وحرص على تعليمي وتحفيظي القرآن الكريم في السنوات الأولى من عمري مع تحفيزي وتشجيعي على حضوري الزوايا الهلالية.. في منزلنا كانj هناك قاعة كبيرة لاستقبال كبار الضيوف وفيها مكتبة أدبية كبيرة تحوي الكثير من المخطوطات القديمة (لعنترة والظاهر بيبرس والزير سالم ودواوين شعرية "للمتنبي وسيف الدولة وأبو تمام")، ومن هذه المكتبة بدأت انطلاقتي بحب المطالعة المتواصل، مع المواظبة على شراء المجلات الأدبية مثل (المعرفة والعربي والآداب اللبنانية) من مصروفي الشخصي، واتبعت هوايتي الأدبية بالمداومة على "دار الكتب الوطنية" وقراءة كتب التاريخ والأدب، ولم أكد أنهي المرحلة الإعدادية حتى قرأت أكثر من مئة كتاب، وأذكر إبان العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 وفي حضرة مدير الدار آنذاك "سامي الكيالي"، طلبت إلقاء قصيدة شعرية من ستين بيتاً أحفظ منها البيت التالي":

غضب البحر والسماء ولكن

غضباً باطلاً على بور سعيد.

يتابع الباحث حديثه بالقول: <<مع انتهاء المرحلة الثانوية تشكل لدي زاد كبير من القراءات والمطالعات التي كنت أبحث عنها فوق رفوف مكتبتنا المنزلية التي وصل عددها الحالي إلى أكثر من ثلاثة عشر ألف عنوان في الأدب والتاريخ والتراث>>.

المدرس والمدير

تخرج الباحث "قجة" من كلية الآداب والعلوم الإنسانية من "جامعة دمشق" في عام 1963، ويذكر من أساتذته "سعيد الأفغاني" و"أمجد الطرابلسي" و"عبد الكريم الأشتر" و"شاكر الفحام" وغيرهم، وكما يقول "كل هؤلاء كانوا مراجع مهمين لنا ومنهم تعلمنا واقتبسنا الكثير من العلوم والمعرفة".

كلف "القجة" بعد تخرجه بتدريس مادة اللغة العربية في مدارس "الباب" و"المعري"، وسمي مديراً "لثانوية المأمون" التي كان طالباً فيها، ونظراً لمكانة تلك المدرسة، أصدر عنها كتاباً توثيقياً بمناسبة مرور خمس وسبعين عاماً على تأسيسها، وشبهت مكانة المدرسة بـ"جامعة السوربون" الفرنسية لرفعة التعليم فيها وتخريج المتفوقين والمتألقين منها.

مسؤوليات جديدة

مع بزوغ نجم ومكانة الباحث الأدبي "قجة" في مدينة "حلب" انتسب لجمعية "العاديات" المتخصصة بالبحوث التاريخية والأثرية، وفاز بمنصب الرئاسة في عام 1994، وعمل على دعم وتنشيط الجمعية في مختلف الجوانب، ورفد المكتبة بعناوين جديدة حتى وصل عددها لأكثر من خمسة عشر ألف عنوان، وحرص على إصدار كتاب ومجلة فصلية عن نشاط الجمعية وتنظيم ندوات وحفلات موسيقية، اهتمت بتوثيق التراث الحلبي والأناشيد الوطنية، والقيام برحلات داخلية وخارجية للمواقع الأثرية مع إقامة المحاضرات الأسبوعية بالتعاون مع "جامعة حلب" وبقي فيها حتى عام 2019، ومع انتهاء مهامه منها تمت تسميته الرئيس الفخري للجمعية لها مدى الحياة.

الأمين العام

ومن مهامه التي كلف بها الباحث "قجة" عند اختيار مدينة "حلب" في عام 2006 عاصمة الثقافة الإسلامية ضمن المعايير التي فازت بها المدينة من حيث العمران والاقتصاد والنشاط الثقافي، حيث تمت تسميته أميناً عاماً لتلك الفعالية، وحرص خلال ذلك العام على إصدار مئة وثلاثة وسبعين كتاباً حول المدينة في مجالات الثقافة التاريخية والإسلامية والتراثية، وجرى تنظيم سبعة وعشرين مؤتمراً دولياً بمشاركة ألف باحث من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب إقامة ست وعشرين ندوة محلية ومئات الأنشطة والمعارض والحفلات، مع كتابة وإلقاء كلمتي الافتتاح والختام، وتنظيم عمل مسرحي بعنوان "ضيف خاتون ملكة حلب" بالتعاون مع الراحل "وليد أخلاصي" و"محمد أبو معتوق"، وقامت أغلب الفضائيات بتغطية تلك الفعالية مع حضور كبار الشخصيات الأدبية.

مهام أدبية

كثيرة جداً المهام التي كلف بها الأديب "قجة" خلال رحلة حياته، ولعل من أبرزها تسميته مستشاراً لمنظمة اليونسكو في "سورية"، ورئيس تحرير للجنة السجل الوطني للتراث الثقافي، وكذلك رئاسة تحرير مجلة التراث، وعضواً بلجنة ترميم الجامع الأموي بمدينة "حلب".

وشكل الأديب "قجة" كما يقول للمدوّنة، علاقات واسعة مع كبار الأدباء العرب والمثقفين والفنانين والإعلاميين، أمثال "نجيب محفوظ" و"حسنين هيكل" و"جمال الغطاني" و"إسماعيل سراج الدين" و"يوسف زيدان" و"شوقي بنبين"، زار أغلب دول العالم وحضر مئة وأربعة وعشرين مؤتمراً، وفي جعبته مئات شهادات التقدير والأوسمة التي يصعب ذكرها، ومن أهمها تكريمه في مختلف الجامعات المحلية والعربية والعالمية، وكذلك نيله جائزة الدولة التقديرية عام 2016.

ألف الأديب "محمد قجة" ثلاثاً وعشرين كتاباً من أبرزها كتاب بعنوان "حلب مطلع القرن العشرين" وكتاب "دمشق في عيون الشعراء"، وله أربعة عشر مؤلفاً بالتعاون مع أدباء آخرين، وكتب أحد عشر نصاً مسرحياً.

ونشرت أغلب الصحف المحلية والعربية دراساته النقدية والأدبية والتي يقدر عددها بثمانمئة دراسة، وألقى أكثر من ثلاثمئة محاضرة في الأدب والتاريخ والتراث على المنابر المحلية والعالمية.

شهادات أدبية

يقول الدكتور "صلاح كزارة": <<الصديق العزيز "محمد قجة" الأديب العربي الحلبي الذي أحب مدينته وكتب عنها الكتب الكثيرة ونظم فيها الأشعار وألقى عنها المحاضرات، وترأس "جمعية العاديات" لسنوات طويلة حتى وصفه الكثيرون بأنه "قلعة حلب" الثانية، وهذا الوصف قليل ولا يفي بالعطاء الكبير والجهد الذي بذله في فعالية احتفالية "حلب عاصمة للثقافة الاسلامية"، فضلاً عن مؤلفاته الكثيرة عن التراث العربي قديماً وحديثاً مثل محطات أندلسية وشرح ديوان "ابن عربي"، والتصوف والتراث الموسيقي، وغير ذلك مما يجعل منه علماً من أعلام الأمة العربية والإسلامية ورمزاً من رموزها الكبار>>.

بدوره يقول الدكتور "فايز الداية": <<يعدُّ الأستاذ الباحث "محمد قجة" قامة ثقافية وأدبية مرموقة، ومسيرته حافلة بالإنجازات، وله مؤلفات متنوعة قدمت زاداً طيباً، وله أيضاً إسهامات في المشهد الثقافي في مدينة "حلب"، وقد انعكس ذلك على مساحات كبيرة في "سورية" و"الوطن العربي"، عندما أشرف على فعاليات "حلب عاصمة الثقافة الإسلامية" التي تضمنت ما يشع في أبواب المعرفة والفنون من محاضرات وندوات ومهرجانات وكتباً تحمل التراث وتضيء على الواقع، وكان للأستاذ "قجة" دوره الفعال في نشاطات "جمعية العاديات" وساهم في تفعيل المؤسسات الثقافية المتعددة وتعاونها فيما بينها، ولا ننسى تنبهه لإحياء بيت المتنبي في "حلب">>.

ويبين الأديب "جابر الساجور" مدير الثقافة بمدينة "حلب" أن التكريم الرئاسي الأخير للباحث الأستاذ "محمد قجة"، هو تكريم لكل أبناء المدينة بشخص باحث كبير أغنى المكتبة العربية بعشرات الكتب والمؤلفات وبحضور لامع في المؤتمرات والمهرجانات العربية، كان ولا يزال له حضوره اللافت من خلال الدور الذي أنيط به بجمعية "العاديات" وأيام "حلب عاصمة الثقافة الإسلامية" بنشر العديد من الكتب والمطبوعات التي وثقت تاريخ المدينة الثقافي والاجتماعي والفني، يعدُّ مدرسة حقيقة للأجيال الناشئة>>.

بدوره يقول الأديب والمفكر العربي "يوسف زيدان": <<الباحث العربي "محمد قجة" هو قيمة ثقافية كبيرة أعطى مدينته "حلب" التي عشقها، عمقاً ثقافياً وفنياً وحضارياً مميزاً على مستوى العالم وفي كل المنابر والمؤتمرات>>.

تم إجراء اللقاءات والتصوير في منزل الأديب "محمد قجه" في "حي الشهباء" بتاريخ الرابع والعشرين من شهر أب لعام الفين واثنين وعشرين.