يعدُّ الفنان الراحل "صلاح الناشف" واحداً من مؤسسي الحركة التشكيلية السورية، وهو الذي قدم رؤية مغايرة بالفن التشكيلي من خلال استفادته من معطيات الحداثة التشكيلية العالمية، حيث جمع في لوحاته بين التعبيرية والتجريد وبين تبسيطه الأشكال الواقعية بتكويناتها الهندسية.

هندسة اللوحة

في حديثه عن الراحل" صلاح الناشف" يقول الفنان والناقد التشكيلي "أديب مخزوم" إن الراحل هو أحد رواد الحداثة في الفن التشكيلي السوري المعاصر، وقدم منذ الستينيات رؤى خاصة ومغايرة عبر استفادته المباشرة من معطيات الحداثة التشكيلية العالمية، وخاصة في لوحاته التي اعتمد فيها التشكيل الهندسي، "في أعماله الهندسية كان يبحث عن منطلقات جديدة تعيد القيمة للاتجاهات الأكثر جرأة وحداثة في تلك المرحلة، إنها لوحات لإثارة الأسئلة لأن التقطيع الهندسي الذي نجده في حالات التكوين والتلوين، يبعدنا مسافات عن الإشارات الواقعية المباشرة، ويدخلنا في جوهر الحالة الاختزالية، والتي عمل من خلالها لإبراز الصورة المتداخلة، بين المساحات التجريدية والتشخيصية معاً، كما أن اللون في لوحات تلك المرحلة يستشف كلون صريح وموحد ضمن المساحة، ويعكس رؤيته الخاصة، وهكذا تشظى المشهد إلى إيقاعات لونية هندسية تشبه في أحيان كثيرة أشكال المثلثات والمربعات والمستطيلات والمكعبات، وفي هذه المجموعة من لوحاته، كان من أوائل المبشرين بالحداثة التجريدية الهندسية".

ويرى "مخزوم" أن الراحل كان سباقاً في هذا المجال، من خلال لوحات محسوبة بدقة رياضية صارمة، تطلبت مزيداً من الجهد والجلد والصبر الطويل، حيث اتجه الفنان الرائد "صلاح الناشف" في مجموعة من لوحاته وخاصة التي اتبع فيها (التكوين الهندسي المبني أحياناً على هيكلية الهندسة الفراغية)، لإعطاء مشاهده التي بدأها بالواقعية والتعبيرية متانة وصياغة مبتكرة خاصة تجاوزت في تلك الفترة عطاءات فناني جيله.

الناقد التشكيلي أديب مخزوم

نحو الحداثة

من لوحاته

ويتابع "مخزوم" بالقول: "إن الموضوعات التي تناولها التشكيلي "صلاح" تشير إلى العناصر ومشاهد الطبيعة والأشكال الحيوانية وغيرها، ولا نستطيع أن نحصر لوحاته خلال مراحله المختلفة بتوجه فني محدد كأن نقول مثلاً: إنه كان تعبيرياً أو تكعيبياً أو تجريدياً، وذلك لأنه قدم نفسه ضمن دائرة من الاختبار والحرية، تجعله غير محصور بتعبير محدد وغير مختصر بسمة مدرسية ضيقة، فاللوحة بالنسبة له يمكن أن تأتي بمعالجات وتقنيات مختلفة".

ويكفي أن نقارن بين طريقة معالجته لعناصر الطبيعة والأشكال الإنسانية، حتى نكتشف مدى التباعد والتقارب في آن واحد بين تجربته في رسم الشجرة مثلاً وتجربته الهندسية، رغم أنه جنح في كل مراحله نحو الاختزال، وبالتالي فأعماله تشكل خطوة تصاعدية نحو الحداثة التشكيلية وثقافة فنون العصر. ‏

من أعماله الفنية

ويشير "مخزوم" إلى أن أعمال الفنان الراحل "صلاح" تظهر فيها حالات التنقل بين الواقع وما يقترب من التجريد، وكان ذلك بمنزلة خطوة حوارية تصالحية بين الاتجاهات التصويرية وبين التحوير الهندسي الذي يعتمد المساحات الصافية والمحددة لما بعد الانطباعية، وبالأخص مرحلة "بول سيزان"، ومن خلال هذا التنقل بين التشخيص والتجريد كان يؤكد عدم انحيازه لاتجاه دون آخر، وقدرته على تحويل نشاطه إلى فسحة للحوار والنقاش بين الأساليب والتيارات التي تصارعت على مدى عقود طويلة.

رموز ودلالات

يضيف "مخزوم" : "لوحاته كانت تطرح أكثر من سؤال حول جدلية العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين معطيات الفنون التعبيرية وما بعدها، ومدى القدرة التي كان يملكها في خطوات اختصار العناصر الإنسانية والطبيعية وغيرها، والإبقاء فقط على إشاراتها الدالة عليها، وما هو لافت أيضاً تلك الإيقاعات اللونية التي تهدأ مرة وتعنف مرة أخرى، فالمساحة تشف أحياناً إلى حد الصفاء اللوني وتبرز أحياناً بصياغة وحشية تنتجها الحركات اللونية الكثيفة والانفعالية، وهكذا وضعنا "الناشف" أمام تنوع بارز في أسلوب المعالجة للأشكال والألوان والإضاءة والانفعال الداخلي الذي يحرك المساحة، وهذا ما نلاحظه من خلال تبديل مستوى وضوح الشكل الواقعي بين لوحة وأخرى، وبروز اللطخات اللونية، فتدرجت لوحاته من التصوير الحديث للأشكال إلى التشكيل الهندسي الأكثر حداثة، والذي كان يستخدمه أحياناً لقول ذاته بأقل ما يمكن من الإشارات، من هنا كان الجمع في لوحاته بين التعبيرية وبين التجريد وبين تبسيطه الأشكال الواقعية، وبين ذلك التركيب المكثف للتكوينات الهندسية، وحضور الأشكال في لوحاته في تنقلاته بين أكثر من مدرسة واتجاه، ليس حضوراً مادياً بقدر ما هو حضور روحي معنوي، فنجد الشكل قد ابتعد عن هيئته الواقعية، ودخل في رمزيته الخاصة بحيث تتحول اللوحة هنا إلى فسحة تأمل زاخرة بالإشارات والرموز والتعابير الذاتية".

مشاركات وأعمال

عمل الراحل "صلاح الناشف" مدرساً لمادة التربية الفنية منذ عودته من "روما" عام 1939 وتتلمذ على يديه طلاب معظم ثانويات "دمشق"، كما درّس مبادئ التصوير الزيتي في مركز الفنون التشكيلية "بدمشق"، وفي عام 1961 عُيّن مفتشاً أول للفنون في وزارة التربية حتى عام 1969، حيث استقال من عمله وتفرغ للعمل الفني وجمع التحف، وخاصة السجاد القديم، كما كان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة، وشارك بتحكيم مشاريع تخرج طلاب التصوير في الكلية، كما قسم المعرض السنوي منذ عام 1959 إلى معرضين في "دمشق" و"حلب" (الخريف والربيع)، وكان عضواً في لجنة المقتنيات والمعارض في وزارة الثقافة منذ عام 1964، وكان عضواً مؤسساً في نقابة الفنون الجميلة عام 1969، شارك "الناشف" في المعرض السنوي لأول مرة عام 1953، ومن ثم شارك به بانتظام منذ عام 1955 كما شارك في معظم المعارض التي أقامتها وزارة الثقافة في "سورية" وخارجها، ومنح عام 1961 براءة تقدير من الوزارة الثقافة على نشاطه وعمله الفني، وشارك "الناشف" في تأسيس الجمعية العربية للفنون عام 1941، كما شارك في تأسيس الجمعية السورية للفنون عام 1950.

حديث الألوان

‏يذكر د. "غازي الخالدي" في نصه عن "صلاح الناشف" المنشور في الموسوعة العربية، "أنه بدأ في التصوير الزيتي بالاتجاه نحو الطبيعة والواقع، ورسم الوجوه، ورسم المناظر الطبيعية، ورسم موضوعات متنوعة ومختلفة.. كان يجمع بين الواقعية في الموضوع وبين الانطباعية في التقنية، أما المضمون فكان في أكثر أعماله تعبيرياً، يهتم بالمدلول الرمزي التعبيري سواء في ملامح الوجوه، أم في رسم الأشجار، فيحرك أشجاره وكأنها تعني أشكالاً مختزلة للإنسان بطريقة رمزية، سواء من حيث الحركة واللون والملمس، فأعماله الأولى كانت واقعية من حيث الشكل، تقليدية الملامح من حيث الموضوع، وانطباعية من حيث الألوان والتقنية، ولا سيما لوحات أحياء "دمشق" القديمة ومن أهمها لوحته مئذنة العروس، فألوانه شفافة ولمساته عريضة، وأهم ما في هذه الألوان أنها من فصيلة لونية واحدة وبدرجات متفاوتة ومتقاربة الدرجات من حيث طبيعتها، وهي في الغالب من فصيلة الألوان الباردة، وعلى رأسها اللون الأزرق، ثم يأتي بعده اللون الأخضر".