من يستعرض شريط ذكرياتِ آبائه وأجداده المحكي والمكتوب، لا بد له من قراءة ما تم تدوينه لديهم عن "كوارة" الحبوب، تلك الصومعة المنزلية الصغيرة المفترشة وإياهم أرضية منازلهم القديمة المتواضعة، فكانت منافذ تسويقية مجانية لمحاصيلهم الحقلية "قمح - شعير - عدس"، ومستودعاً طينياً لحفظ إنتاجهم، وهي التي رافقتهم منذ بداية القرن العشرين وحتى الثمانينيات منه، ولتطوى بعدها في أرشيف الذكريات غير المنسية، إلا أنه وبعد عودة أبناء الريف إلى "كار" الحصاد الذي تم تجميده لسنوات، عادت "الكوارة" إلى منازل أحفاد من شيدها وبناها قبل مئة عام.

صومعة صغيرة

قصة عشق زراعية نظم حروفها فلاحو أيام زمان على أرض الحقل والبيدر، وليستقر بها المكان في "كواير" منازلهم لتقرأها فيما بعد الأجيال اللاحقة كافةً، هذا ما قالته السيدة "نوفا مقلد" لمدونة وطن eSyria وتضيف: "الكوارة" الملازمة لمعظم قرى وبلدات المحافظة، والتي ولدت من رحم الأتربة الطينية، منذ نحو مئة عام، ما هي إلا حارس إنتاجهم الأمين، والحافظة لمؤونتهم إذا جارت عليهم السنين، فمن منا لا يتذكر نحن جيل الخمسينيات كيف كان أباؤنا وأجدادنا يأتون بأكياس القمح، ويفرغونها في بطون حواضنها الأساسية ألا وهي "الكواير" وليُنثر ما في دواخلها فيما بعد فرطاً ضمن أحجار رحى مطاحن القرية، وذلك كلما احتاجت الأسر دقيقاً لزوم قوت يومها من الخبز، والزائر لبيوت ريفنا خاصة القديمة منها، سيلحظ أن قسماً كبيراً من بيوت مؤونتها ألا وهي الكواير أبت أن تفارقها، فما زالت تواقة لحبات قمحها التي جاءتها زائرة منذ عشرات السنين، مرحبةً بعودتها إلى أحضانها، خاصة بعد أن عاد القمح مزروعاً إلى أراضٍ غادرها منذ نحو خمسين عاماً، فالحنين إلى ماضي الآباء والأجداد، بدأ يتسلل علنيةً إلى مستودع ذكرياته لينعش فيها موروثهم القروي الذي بدأ المعاودة من جديد".

بيت أمانهم

وتابعت "مقلد": "المتصفح لسجل ما تبقى من هذه الكواير سيلحظ أن رائحة الأقماح التي كانت مُخزنة بدواخلها، ما زالت تنثر في البيت عطر غبار بركتها، وما زال غربال أقماحها ينادي أصحابه الذين هجروه من سنين للعودة إلى ماضيهم المملوء باليمن والبركة، فالكوارة المملوءة بالقمح سابقاً والخالية منها لاحقاًْ، معظمها مبنيٌ من الطين المجبول بالتبن، وقد بناها قاطنو قرى وبلدات المحافظة، لتخزين أقمحاهم المنتجة من حقولهم، لتكون أي الأقماح مقصدهم الغذائي في فصل الشتاء، وملاذهم الآمن في سنوات الجفاف، فعلى جدرانها الطينية كتب أباؤنا وأجدادنا أبجدية إنتاج الخبز التي تبدأ من الحقل وتنتهي عند "الكوارة"، فهل ستعود تلك الصومعة الصغيرة إلى بيوت من هجرها أهلها منذ تسعينيات القرن الماضي".

بركة البيت

ويقول" أحمد ذياب": "في زمن "الكوارة" كان للمؤونة طعم آخر، فمن حبات القمح المُخزنة بداخلها أنتج أهلنا الدقيق والبرغل.. الكثير من "الكواير" ما زال ماضيها يحاكي حاضرها، فمنذ أن نضبت بطونها من القمح أُفرغت بيوتنا من الخبز العربي، مضيفاً: "إن "الكوارة" أبصرت النور في منازل الآباء والأجداد منذ مطلع القرن العشرين، فكانت أنيس وحدتهم وونيس عتمتهم، وهذه الصوامع المصغرى بناها أهلنا بخبراتهم المتواضعة، فكانت أنموذجاً للمستودعات الحافظة للمحاصيل الحقلية من الرطوبة، فتنوعت سعتها التخزينية، وكل حسب إنتاجه السنوي من القمح، فمنها وصلت سعتها إلى طنٍ ومنها أكثر من ذلك، ليدخلوها فيما بعد ضمن تصنيفاتهم المنزلية، فواحدة للاستهلاك المنزلي، لتبقى الثانية لزوم بذار السنة القادمة، وحالياً وفي ظل الواقع المعيشي الصعب لا بدّ لنا أن ننفض غبار النسيان عن "كواير" أيام زمان التي ما زالت قائمة لتاريخه في زوايا بيوتنا القديمة، وتهيئتها لتخزين قمح سهولنا بعد أن أصبحت سنابل قمحه تطل من جديد منادية زارعيها لحصادها".