لا تزال طقوس المتعبدين المكتوبة بلغة من مارسها منذ آلاف السنين، على جدران معابدهم، تُقرأ سراً وجهراًْ، من قبل مؤرخي التاريخ، وتدون من قبلهم، لتبقى ذلك الكتاب التاريخي المفتوح، أمام عامة الناس، فرائحة مسكهم وطيبهم، وعود بخورهم ما زالت تعبق في المكان، ليشتمها من جاءها زائراً أو باحثاً عن خباياها المدفونة في زوايها، والتي ما زال فك طلاسمها عصياً على باحثي الآثار والتاريخ، ما أبقى محراب معابدهم تواقاً "لتمتمات" صلواتهم في ذلك الزمان، والتي تعاقبت عليها أجيالٌ وأجيال، ألفا عام من طقوس العبادة، ومحراب المتعبدين لا يزال شامخاً يقص على سائليه حكايا الأقدمين، المتداولة لتاريخه على لسان السكان المحليين.

مكتوبة بالماء

وحيدةٌ هي مياه وادي قنوات أو ما يسمى "وادي الغار"، التي ما زالت شاهدة على آلهتها، المسماة باسمها، ولا سيما بعد أن ارتحل من كان بالمعبد متعبداً، إذ يقول رئيس دائرة آثار "السويداء" "وليد أبو رايد" لمدونة وطن eSYria: " على ضفة الوادي الشرقية، شيّد معماريو القرن الثالث الميلادي معبدهم، متخذين من مياهه اسم آلهتهم، التي أرخ لها من جاء بلدة "قنوات" باحثاً في بواطن التاريخ، ولينثر معلوماته الأثرية التي توصّل إليها، على صفحات كتب الآثار والتاريخ، ومن يجول في تلك المنطقة، سيلحظ، أن المعبد ولدّ معانقاً مسرح قنوات الأثري "الادويون" من جهته الجنوبية، وليستأنسن من أتى المعبد متعبداً، بمن جاء المسرح متفرجاً، ولتبقى رائحة من قدم الذبائح للآلهة قرباناً تعبق بالمكان، لا تغادرها، لتشتمها الأجيال اللاحقة، ولتبقى مياه الوادي -وبعد أن بكت الأجيال المتعاقبة، على من حط رحاله في هذه المنطقة- هي الناطق الرسمي باسم من مرَ وعبرَ إلى أروقة معبد "ربة المياه" المبني من الحجارة البازلتية وفق مخطط معماري وهندسي متميز".

نبع الملعبة

ويضيف "أبو رايد": "الزائر لمعبد "آلهة المياه" يشعر كأنه يجالس التاريخ، ليحدثه عن ماضي تلك الأيام، وحكايا ذلك الزمان، فالتاريخ بين يديك ورهن إشارتك، إذ يتألف المعبد من طابقين اثنين جار عليهما الزمان، فلم يبق منهما سوى أطلالهما، فمياه الوادي هي الوحيدة التي ما زالت، تحتفظ بلغة الأقدمين لتقصها على من أتاها سائلاً عن المعبد، فمياهه دائمة متجددة، وأرشيفه لا يتلف، فغذاء روحه هو نبع "الملعبة"، التي تصله المياه عبر أقنية حجرية مسقوفة ببلاطات بازلتية جميلة، ولتودع بعدها المعبد، زارعة قبلتها الأخيرة في ساحة المسرح.. ومن معبد "ربة المياه" في "قنوات" انتقلت كاميرا التاريخ إلى من يحمل الاسم نفسه، ليحط الرحال بنا هذه المرة، في بلدة "القريا"، التي لم يبقَ من معبدها إلا ذلك الرواق المُتكئ بحجارته البازلتية على تلك البركة المائية، التي تحمل قدسية العبادة عند الأنباط، ما يدل على أن من شيد حجارته المشذبة، والمعنونة بلغتها ورموزها، هم الأنباط".

معبد المشنف

معبد "ذو الشرا"

معبد المشنف

المتصفح لصفحات التاريخ والقارئ سطورها جيداً، سيلحظ أن الماضي البعيد ظل حاضراً قريباً، فالنقوش المنسوخة على أبواب معبد "المشنف" -وحسب ما تحدثت الباحثة في شؤون الآثار "لينا الصفدي"- تؤكد أن الولادة البنائية والإنشائية لهذا المعبد، أبصرت نورها في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، التي أرخت له الكتابات اليونانية، المكتشفة في المعبد، والتي ما زالت ذكرى من دخله متعبداً مدونةً على جدرانه البازلتية، ليقرأها من أتاه زائراً، وبالرغم من مضي أكثر ألفي عام على تاريخ معبد "المشنف"، إلا أن رواقه ومصلاه ما زالا شامخين، يحاكيان بركة مائه الواقعة إلى غربه، والذي اتخذ منها من بنى المعبد قدسيته، وتتقدم المعبد ساحة كبيرة مُبلطة، وتنتهي بدرجِ حجري وهو معبر المتعبدين، والزائرين إلى الرواق، ومن يمعن النظر بذلك المعبد سيلحظ أن سقفه مرفوع على عمودين اثنين، يقسمان الواجهة إلى ثلاثة ممرات".

وتضيف: "كان المعبد مخصصاً لعبادة الإلهين: بعل شمين "ذو الشرا" و"هيليوس"، وما زالت زخارف حجارته البازلتية، هي الصورة الأكثر جمالاً التي لا بد من أن تلتقطها كاميرا العين، دون استئذان لجماليتها التي قل مثيلها، وقد عثرت بعثات التنقيب الأثرية أثناء عملها في المعبد، على تمثال رجلٍ من المرجح أن عائديته للإله النبطي "ذو الشرا" ليُنقل بعدها إلى متحف "السويداء"، ولتَعثر البعثة أيضاً على تمثال آخر، يبدو أنه لأحد محاربي ذلك الزمان، ومن معبد "المشنف" دارت كاميرا التاريخ ليستقر بها المكان، في معبد "السويداء" مربع الشكل، وضمن رواقه بنى الأقدمون، محرابين ليوضع عليهما تماثيل الأرباب، حيث فُتحت أبواب هذا المعبد لزوم العبادة، في منتصف الألف الأول الميلادي، وأهم ما يميز معبد "السويداء" محرابه المنتصب وسط المصلى، إذ يحمل سقفه الهرمي أربعة أعمدة، وقد كرس هذا المعبد لعبادة رب الأنباط بعل شمين "ذو الشرا".

لينا الصفدي