بالرغم من مضي أكثر من ثلاثة آلاف عامٍ، على انطفاء جذوة الحياة بأجساد من شيد وسكن خرب جبل العرب الأثرية، إلا أن أرواح من كان يقطنها ما زالت نابضةً بالحياة، لتقص على من جاء آوابدها زائراً أو مستطلعاً حكايا تاريخٍ خطّ حروفه معماريو القرون الوسطى، حيث كان قلمهم " ازميلهم" وقرطاسهم المنحوتات البازلتية، فالباحث في بواطن وزوايا هذه الخرب، لا بد له أن يغادرها وجعبته مملوءة بما تختزنه هذه الآوابد من مكنونات أثرية وتاريخية غاية في الروعة والجمال، فرحلة الاستكشاف وفك شيفرة الألغاز المنسوخة على أبواب كهوفهم ومنازلهم، ما زالت تُشكل الشغل الشاغل لعلماء الآثار والتاريخ.

حاضرة تاريخياً

لم يكن سكون بادية "السويداء" -المُحتضنة لعشرات الخرب الأثرية في عتمة ليالي "كوانين"- إلا صوتاً هامساً مسموعاً في آذان من أتاها سائلاً مع إشراقة شمس أشهر "التحاريق".

وحسب ما تحدث لمدونة وطن eSYria الباحث الأثري "فراس زيتونة" بالقول: "على ضفة وادي الصفا اليمنى، شيد من أتى بادية "السويداء" في الألف الرابعة والثالثة قبل الميلاد، مباني خربة "الأمباشي"، ضمن منطقة شبه صحراوية وأراضِ غير زراعية، ولتبقى السدات المائية المُخزنة لمياه الأمطار، هي الوحيدة في ظل وحشة الصحراء، مؤنسهم ومُطفئ ظمئهم، ورغم مناخ المنطقة المتنوع، إلا أنها شكلت على مدى ألفي عام متواصلة، نقطة استقرار للمتعاقبين على هذه المنطقة، والمتقلب لصفحات التاريخ المخطوطة على أيدي باحثين مختصين، سيقرأ ضمن سطورها، أن الذين حطوا رحالهم في هذه المنطقة، قد تركوا وراءهم بصمة تاريخية ضمن وحشة الصحراء، ومن المُرجح أنها مُهرت في عصري البرونز القديم والوسيط، والباحث في خفايا الخربة سيجيبه تاريخها وعلى لسان منحوتاتها البازلتية".

خربة الاباشي

ويضيف الباحث: "هنا ولدت وعلى أيدي متقني لغة فن العمارة، أكثر من مئة وحدة معمارية، تاريخ ميلادها بدأ من العصر الحجري النحاسي، لينتهي بعصر البرونز الوسيط، ولمنازلها فنونٌ وألوان فبعضها أسقفها مقببةٌ، وأخرى أسقفها بلاطات حجرية، بجانبها مواقد وأفران، والزائر لـ"الأمباشي" لا يمكنه أن يغادرها دون أن تكتحل عينيه، برؤية مقبرتها، المُحتضنة لمئات القبور، المبنية بالحجارة الكبيرة، والناظر إليها سيلحظ أنها قبور ذات أشكال مربعة ومستديرة".

آبار العظام

وبعد خربة "الأمباشي" تنتقل كاميرا التاريخ إلى خربة "الهباريا"، والتي تتشابه منازلها مع جارتها، ولعل الباحث في بواطن وزوايا هذه الخربة، سيكتشف أنه تعاقبت عليها مرحلتين سكنيتين، تعودان إلى نهاية الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، وأهم ما يميز هذه الخربة أثرياً، ظاهرة آبار العظام الحيوانية، التي يرجع تاريخها إلى عصر البرونز القديم، و لهذه حكايتها التاريخية، المُدونة على صفحات التاريخ، حيث تقول الرواية إن قوماً ممن سكنوا هذه المنطقة، قاموا بجمع عظام الحيوانات "الأضاحي" ضمن بئر -وربما أكثر- ورميها فيها وحرقها خلال طقوس محددة، لتبقى هذه العظام المختلطة بالبازلت لغزاً يصعب على أهل التاريخ تفكيك حروفه لتاريخه".

خربة الدياثة

حامية عسكرية

لينا الصفدي

وبالانتقال إلى خربة "الدياثة"، حيث تبين الباحثة الأثرية "لينا الصفدي" أن هذه الخربة بنيت في العصر الكلاسيكي، لتأتي معانقة وداي "أم رواق" شرقاً، فكان حصنها المنيع لحاميتها العسكرية، التي كانت مهمتها حماية تخوم البادية الشرقية من الغزاوت، والمتجول في "الدياثة"، باحثاً عن خفايها، ستجيبه آوابدها، دون أية رتوش، لترشده إلى دليلها الأثري الذي ما زال، جالساً وحيداً مؤنسه ذلك الوادي، ألا وهو ذلك البيت الصغير المبني بشكل دائري، حيث يشبه من حيث الشكل والمضمون منازل خربة "الأمباشي".

وتتابع "الصفدي" قائلة: "من يتسنى له التوجه شرقاً، سائلاً عما تختزنه بادية "السويداء" ، سيُفتح له كتاب التاريخ صفحاته، ليقرأ ضمنها عن خربة "آوي الصفا" ذات الأكواخ الحجرية، والتي أبصرت نور الولادة البنائية، في الألف التاسعة قبل الميلاد، والتي تعد من أقدم الخرب الأثرية، ولغة مكتشافتها المنسوخة على أبواب أكواخها، تؤكد ذلك، فأهمها الأدوات الصوانية والحجرية".

وتقول "الصفدي" إن ما تم ذكره آنفاً لم يكن خاتمة الخرب الأثرية، فأرشيف التاريخ الذي سجله الأقدمون وأرخ له السكان الحاليون، ما زال مسلسله مستمراً، ففوق السيول البركانية، تم تشييد خربة "دبب" ، والتي يعود تاريخها إلى نهاية عصر البرونز القديم الثاني، فمنازلها متصلة مع بعضها، مبنية بشكل دائري ومستطيل، فمن يقصدها تحدثه آوانيها الفخارية عن الحقب الزمنية المتعاقبة على هذه الخربة، التي ما زالت الشاهد الحي على ماضي من مر وعبر من هنا".