سجلت الفترة بين عامي 1991 و1992، واحداً من أهم الاكتشافات الأثرية في منطقة "إثريه" في "سلمية"، وتمثل باكتشاف تمثال الإله "أبولو" البرونزي بواسطة البعثة الألمانية، ويبلغ ارتفاعه 53 سنتيمتراً، وعرف الإله "أبولو" بأسماء كثيرة : "فويبوس"، و"هليوس"، ونقل هذا التمثال إلى المتحف الوطني في "دمشق" وهو محفوظ في جناح الآثار الكلاسيكية.

من هو "أبولو"؟

حسب قول الباحث التاريخي "أمين قداحة" : <<"أبولو" هو ابن "زيوس" كبير آلهة اليونان، وهو رب الشمس والنبوءة والشباب ودفع الأذى عن الناس، وهو ملهم الشعراء والموسيقيين وقائد ربات الفنون، وهو الشقيق التوءم للآلهة "أرتميس" (ديانا)، وهي عند الإغريق ربة الصيد وحامية الشرف العذري ومعينة النساء على الولادة، ومن أشهر عشيقاته "دافني">>.

وصف التمثال

الآثاري الدكتور "خالد كيوان" ومدير فرع جامعة "دمشق" بـ"السويداء" يصف التمثال قائلاً:

الآثاري الدكتور خالد كيوان مدير فرع جامعة دمشق بالسويداء

<<لقد صور تمثال الإله "أبولو" على هيئة شاب رشيق ووسيم، طوله 53 سنتيمتراً وهو مصنوع من البرونز، ولكنه تعرض للتلف في بعض أجزائه وخاصة في ركبته اليسرى وأسفل يده اليمنى، وقد جاء التمثال على الشكل التقليدي المعتاد له أي بوضعية الوقوف، ملتفتاً إلى اليمين قليلاً، وعارياً تظهر تفاصيل جسده، ويغطي رأسه ما يشبه الخوذة الطولانية، مزينة من الأمام بشارة ما، ويلاحظ أنه ركّز نظره للأفق البعيد ماداً يده اليمنى وباسطاً كفّه وكأنه يشير إلى شيء أو يعطي شيئاً ما، بينما أسبل يده اليسرى قابضاً كفّه ومقدماً رجله اليسرى على اليمنى>>.

ويضيف الآثاري "كيوان" أنه عُثر على التمثال شمال المعبد الروماني في منطقة "سلمية" (موقع إثريه)، في صيف عام 1991، 1992 ما يدل على أهمية الموقع، وما كان يمثله من الناحية الدينية، ويُرجح بأن المعبد بني قبل العصر الروماني، ولكن بعد هيمنة الرومان على المنطقة كرسوه كمعبد لهم، ويشار إلى أن المعبد يعود تاريخ بنائه للقرن الأول قبل الميلاد، وفيه إضافات جديدة ترجع لأوائل القرن الثالث الميلادي زمن الإمبراطور السوري "كركلا" الذي حكم "روما" بين عامي 211 و217 ميلادية، ونقل التمثال للمتحف الوطني بـ"دمشق" في قسم التماثيل الكلاسيكية.

الباحث التاريخي أمين قداحة

في موقع "إثريه"

تمثال الإله أبولو كما وجدته البعثة الألمانية

يقع موقع "إثريه" إلى الشمال الشرقي من مدينة "سلمية"، بمسافة 80 كم وهي تقع في المنطقة العقارية "اثريه" (180)، وقد تم تصنيفها أثرياً في (18ـ1ـ1990 للميلاد) تحت الرقم (44ـ أ تا) وهي تتبع لقرية "إثريه" التابعة لمدينة "سلمية"، وتسمى بخربة "إثريه".

ويبين "كيوان" أن أهمية "إثريه" جاءت إلى حد ما من ينابيعها وآبارها الوافرة، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي المهم الذي سهل مرور القوافل التجارية من وإلى مختلف الجهات فجعل منها نقطة عبور مهمة، خاصة بين الطريق الواصلة بين الرصافة وحمص مروراً بسريان (إثريه)، والطريق الواصل بين "كالسيسي" (قنسرين) إلى "تدمر" مروراً بإثريه" ، والجدير بالذكر أن أحد أبواب "أفاميا" سمي بباب "إثريه" (سريانا) كدليل على أهمية هذه الأخيرة، ويبدو أن تلك الأهمية التجارية جعلت منها مدينة واسعة، وأعطتها بالإضافة لدورها التجاري دوراً عسكرياً لحماية المراكز العمرانية التي تلتها بحسب تبعيتها، لذلك يذكرها "جورج تات" من بين المدن المحصنة في البادية خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين فيقول: <<أهم المدن المحصنة "باريا ليسوس" (مسكنة) وكالسيسي"(قنسرين) وسريان (إثريه) والأندرين"...>>.

ويعود أقدم ذكر لها باسم "سريان" أو "سريانا" وذلك كمحطة تجارية مهمة تعود لعامي (194 و197) للميلاد، ولكن ربما تكون أقدم من ذلك، وكدليل على أهميتها يقول "ابن العديم":

<<وفي طرف "حلب" بناحية "الأحص" مدينة عظيمة دائرية وبها آثار قديمة، يقال لها "سورية" وهي موضع بالشام بين "خناصر" و"سلمية" والعامة تسميها "سور">>.

ورغم أهميتها التاريخية يتساءل "كيوان" لماذا أغفلها الجغرافيون العرب في تحقيقاتهم الجغرافية، رغم أن ذكرها يرد ضمن المحطات التجارية المهمة في العصر الأموي، وتحديداً زمن الخليفة "هشام بن عبد الملك" وذلك اعتماداً على كتابات عربية اكتشفت في قصر "الحير الغربي" تعود لعام 110 هجري، و726 للميلاد، أي عهد الخليفة المذكور.

صلة "أسرية" بـ"تدمر"

يُرجح أن "إثريه" تبعت في بداية تاريخها ولفترة طويلة من الزمن لمملكة "تدمر"، حيث شكلت أهمية كبيرة لـ"تدمر" التي بلغت ذروة قوتها في عهد ملكتها العربية (زنوبيا) التي استطاعت أن تضع تحت سلطتها كل منافذ وطرق المواصلات البرية والبحرية مع المشرق الأقصى، والمصادر الرئيسية لتموين "روما" في الوقت نفسه، وأمام قلة المعلومات التاريخية عن خرائب "إثريه"، لا نملك إلا أن نلجأ للآثار بغية استنطاقها ومعرفة الحقيقة وخير ما يمكن أن نعتمد عليه دراسة تاريخ هذه المدينة الخربة، هو معبدها الذي لا يزال محافظاً على شكله تقريباً.

كما أنّ الدراسات الأثرية والتحليل الذي أخضعت له الزخرفة المعمارية لا تشير بالضرورة إلى مشاركة ورشات العمل التدمرية في بنائه، بالإضافة لذلك فإن هذا المعبد لا يقارن بالمعابد الصغيرة الموجودة إلى الشمال الغربي من "تدمر"، كما أن تشييد هذا المعبد في ذلك المكان وبنائه بتلك الطريقة (الطراز الروماني) يعود لأسباب خاصة، أهمها وقوع "إثريه" على تقاطع طرق مهمة وتوفر آبارها المياه أيضاً، زد على ذلك أن السمات الرومانية الواضحة في هذا البناء يمكن أن تدل على رأي مفاده: إن باني هذا المعبد هو عضو حساس ومهم بالإدارة الرومانية، بالأخص بالجيش، وقد أراد أن يبني هذا النموذج من المعابد على نهاية طريق رومانية مهمة.

"أبولو" و"الفاتيكان"

يقارن الباحث التاريخي "أمين قداحة" بين الشبه في تمثال "إثريه" و"الفاتيكان" قائلاً: <<بمقارنة تمثال "إثريه" بتمثال آخر للإله "أبولو" يعود إلى حوالي (350، 320) قبل الميلاد والمحفوظ في "الفاتيكان"، وهو يظهر بحركات تمثال "إثريه" تقريباً، إلا أنه صنع هناك من الحجر الرخامي، وجسده يتجه إلى الأمام بوضعية الوقوف أيضاً ملتفتاً برأسه للجهة اليسرى، يرمي بنظره للأفق البعيد وماداً يده اليسرى، التي نَشر عليها رداءه المتدلي من حول عنقه بينما أسبل يده اليمنى، وربما يعود تمثال "إثريه" لمثل تاريخ تمثال متحف "الفاتيكان">>.

اعتقادات

ويوضح الباحث "قداحة" أن ثمة اعتقاد بأن عبادة "أبولو" جاءت إلى الشرق مع "الإسكندر المقدوني" وخلفائه السلوقيين، وربما كان يقاتل الإله "أوتوا" (شماش) في ديانات الشرق العربي القديم الأقدم، وقد اصطفى السلوقيون من بين كل الآلهة الإغريقية إلهين، أبرزوا لهما الاحترام الكبير والخاص من بين جميع الآلهة، وهما "أبولو" و"زيوس"، ولعل اهتمامهم الخاص بـ"أبولو" توضحه إحدى نبوءات هذا الإله، الذي تنبأ لـ"سلوقس" (مؤسس الدولة السلوقية) في أسطورة يرويها "ثيودوروس" بمستقبله الملكي عندما كان لا يزال ضابطاً صغيراً في جيش "الإسكندر المقدوني">>.

ويتابع: <<كانت تقام أعياد ومهرجانات كل أربع سنوات تعرف الأعياد البوثية، نسبة إلى بوثية مكان أقدم معابد عبادته وكان معبده في "دلفي"، ويعدُّ من أهم المعابد الإغريقية قدسية على الإطلاق.

أجري اللقاء في 7 تموز 2022.