"نعيم الدنيا الحمّام"، عبارة لطالما ترددت على ألسنة العديد من الدمشقيين، وتدل على أن الحمام الشعبي كان ولا يزال يلعب دوراً بارزاً في حياتهم، فكانت زيارة الحمام تقليداً أسبوعياً لأهلها، وخصوصاً أن "دمشق" تشتهر بحماماتها الأنيقة البنيان والحسنة النظافة، والتي تعد مرفقاً للترفيه والتسلية، بالإضافة إلى وظائفها الاجتماعية والثقافية والدينية، وبالرغم من أن عمرها مئات السنين، لكنها رغم ذلك لم تفقد بريقها التاريخي والتراثي ولا تزال رمزاً لتراث شعبي غني يحفظ تاريخاً طويلاً من العادات والتقاليد الاجتماعية التي اتصفت بها الحياة الدمشقية.

هوية

خلال جولتنا في حارات دمشق القديمة، كانت وجهتنا هذه المرة "باب سريجة"، استوقفنا مبنى أثري في نهاية السوق ببنائه العريق وزخرفاته الأثرية وبابه الخشبي المعتق برائحة الماضي، وهو "حمام التيروزي" وللتعرف عليه التقت مدونة وطن صاحبه "محمد التيناوي" الملقب "أبو الخير" الذي حدثنا عنه بالقول: "منذ القديم كان لكل حي حمامه الخاص، ففي فترة الصباح وحتى العصر يكون دور النساء، ليبدأ بعدها دور الرجال، وهناك ما يعرف بحجز الحمام لعائلة ما بقصد تلبية مناسبة خاصة بها، كالزواج مثلاً، كما شكّل الحمام المكان الأنسب للنساء الدمشقيات للبحث عن عرائس لأولادهن، كانت الحمامات مصدراً للنظافة واللقاءات العائلية وللأفراح والأعراس وكذلك لسهرات يوم الخميس، كان الحمام في الماضي يستقبل كل شرائح المجتمع تقريباً من رجال ونساء، ولكن منذ بداية الأزمة وبسبب النقص في الكادر النسائي أصبح حمام التيروزي للرجال فقط".

تراث دمشقي

المظهر الخارجي لحمام التيروزي

بالرغم من التطور الحضاري، إلا أن الحمامات حافظت على هويتها العمرانية القديمة، التي هي جزء من العمارة الإسلامية، مع إضافة تحديثات وتعديلات ضرورية لمواكبة التطور، وحسب قول "التيناوي": " تم الاستغناء عن "القميم" الذي يعمل على الحطب بحراقات تعمل على مادة المازوت، وتمت إضافة غرفة ساونا وجاكوزي، وما زالت الحمامات تعد تراثاً دمشقياً بحد ذاتها، وما زالت الطقوس كحمام العريس واجتماع الأصدقاء موجودة، إلا أنها بالحد الأدنى بسبب الوضع الاقتصادي الصعب، كما ساهم تغيّر نمط الحياة وتوافر المياه والحمامات في المنازل في تراجع دور الحمامات الشعبية واقتصارها في الأغلب على المناسبات الدينية والخاصة ببعض العائلات الدمشقية، التي ما تزال محافظة ومتمسكة بعاداتها وتقاليدها".

زوّار الحمام

يعد حمام "التيروزي" من الحمامات العريقة في "دمشق"، حيث لا يزال محافظاً على رونقه وعراقته.

ويشير" التيناوي" إلى أن الحمام كان مقصداً للكثير من السياح والسفراء الأجانب الذين سكنوا دمشق، بالإضافة إلى أكابر وباشوات الشام والعامة من الدمشقيين والمدن الأخرى. مبيناً ان نحو 360 حماماً كانت موجودة في "دمشق"، لم يبق منها إلا 7 أو 8 حمامات فقط، كما انخفضت نسبة زبائن الحمام بحوالي 80% بسبب الأزمة وقلة المحروقات، إضافة إلى مشاغل الناس وظروفهم المادية والمعنوية، وبات قاصدو الحمام وزواره يأتونه للتسلية والترفيه ولإقامة حفلات الأعراس والمناسبات.

لكن رغم ذلك يؤكد "أبو الخير" أن الحمام يمتلك ما هو غير موجود في البيت، مثل التكييس والمساج (التدليك)، وأن زبون الحمام معتاد عليه ومهما حصل سيأتي كونه اعتاد على من يقوم بتكييسه وتنظيفه.

تاريخ عريق

وللتعرف على تاريخ الحمام زرنا مديرية الأثار والمتاحف في "دمشق" والتقينا الآثاري "جوزيف حنا" حيث يقول: ورد في"الدارس" لـ"النعيمي الدمشقي"، إنه في سنة 848 في شهر ربيع الأول فتح حمام الأمير "غرز الدين خليل التيروزي" شرقي مدرسته، وهو حمام كبير حسن، وأجر كل يوم بأكثر من أربعين درهماً، ويعد هذا الحمام تاريخياً من حمامات القرن الخامس عشر الميلادي، واعتبرت المديرية العامة للآثار والمتاحف هذا الحمام من الحمامات الدمشقية ذات الصفة الأثرية".

ويتابع" حنا" بالقول: "عرفت الحمامات الإسلامية منذ الأيام الأولى للفتوحات، فالمسلمون الأوائل الذين خرجوا من الجزيرة العربية، منحوا الحمامات التي كانت موجودة مكانة لم تحتلها من قبل، وجعلوها مرفقاً شعبياً بالمعنى الصحيح، وكانت الحمامات مقتصرة في الماضي على طبقة الأثرياء، واختلف هدف استعمالها، إذ كانت وسيلة تسلية ولهو وترفيه، أما عند المسلمين، فصار يؤدي حاجة ويساهم في القيام بالواجب الديني، أضف إلى أن المعماريين المسلمين حافظوا على الهيكل العام للحمام، وتصميمه الذي عرف به، غير أنهم قاموا بتعديلات أساسية على زخارفه وزينته ونقوشه وعدد قاعاته والمسافة التي تباعد بين أقسامه، وقد عرفت الحمامات العامة مخططين اثنين من حيث الشكل، الأول طغت فيه القاعة الدافئة، فكانت بثمانية أضلاع أو باثني عشر ضلعاً، أما المخطط الثاني فهو طولي، تصطف فيه قاعات مستطيلة وتحتل القاعة الأولى مركز الصدارة، وفي أحيان كثيرة يكتفي بقاعات ثلاث: البراني والوسطاني والجواني، فالبراني هو القاعة الباردة المخصصة لخلع الملابس ومزودة بخزائن وطاقات غير نافذة، توضع فيها الملابس والمناشف ولوازم المستحمين، والوسطاني هي أكثر دفئاً وتستعمل في الشتاء لخلع الملابس، والجواني حيث الحرارة مرتفعة وجوها عابق بالبخار وهي مكان الاستحمام".

أقسام وتصاميم

وأكمل الآثاري" جوزيف" حديثه: " يتألف الحمام الدمشقي من أقسام وردهات ودهاليز، ومقاصر لها أسماء محلية خاصة لكل منها وظيفة تتميز بها، ونجد في حمام "التيروزي" أقساماً يبدأ من "البراني" الذي يحوي صحناً مربعاً تحيط به أربعة أقواس تلتقي على دعائم، وإيوان يقع تحت كل من القوسين الشرقي والغربي ويحيط بالايوانين مصاطب مفروشة بالسجاد والمناشف، وجدران البراني مزينة بالمرايا المصدفة والآيات القرآنية والحكم، أما الأرض مرصوفة بحجارة مصقولة بتشكيلات هندسية بديعة من الحجر الأسود والوردي وفي وسطها بحرة بحجارة وردية، تنطلق منها نافورة حاملة المياه إلى الأعلى لتعود ناشرة الرذاذ الذي ينشر الرطوبة والطراوة في الحمام، وتكون النوافير بالعادة أفواه لتماثيل الحيوانات على شكل نوافير متلاقية، ويوضع حول النافورة أصص من النباتات المتنوعة، وجدران البراني مزينة بالرسوم والصور والآيات والحكم وعبارات الترحيب بالزبائن، وأواوين مفروشة بالأرائك والمساند، وحشيات القش أو القطن المنجد بالدامسكو المطرز بالرسوم الجميلة، وغالباً ما يوجد في براني الحمام مشلح خاص منفرد يسمى (القصر) يخصص للزبائن الميسورين (الأكابر)، وإلى جانب المدخل الخارجي إلى البراني سدة (تخت) خاصة بالمعلم يرحب منها بالزبائن القادمين ويودع الخارجين من الحمام بكلمة "نعيماً".

كما يوجد أيضاً جناح يطلق عليه اسم الوسطاني، وهو عبارة عن ردهة انتقالية بين البراني والجواني يمتد طرفه الشمالي إلى بحرة كان يغرف منها الماء البارد بسطول إلى الأجران لتعديل حرارة الماء المنساق من حلل الماء الحارة (النارية والدخانية والخراج) إلى الأجران، في الجهة الغربية مصطبة لاستراحة المستحمين عليها خلال فترات الاستحمام، وفوق الجدران قبة دائرية معقودة، كما يشكل الحد الفاصل بين الأقواس او من المقرنصات والأقواس المتداخلة الجصية، ويتوسط الجواني ممر بيت النار وعلى طرفيه إيوانان يستريح فيها الزبائن خلال فترات الاستحمام".

مظهر خارجي

لا يرى الحمام بمجمله إلا من سطوح المنازل المجاورة، فهو مؤلف من قبة كبيرة تعلوها فقاعة بلورية وإلى جانبها المدخنة، وهذه القبة تهيمن على قباب صغيرة يخترقها النور بواسطة قماري، وللحمام باب بسيط ضيق يرى من الطريق، خال من التزيينات أو الكتابات التي تهدي المارة إليه، ويقبع الحمام وسط حارة بين جدران مشتركة تساهم في الحفاظ على حرارته، ويطل على الطريق بأصغر واجهة ممكنة، إذ إن مقومات الحمام المعمارية لا تفرض عليه ذلك لأنه لا نفع للشبابيك فيها، ويتألف من قسمين الأول مفتوح للناس حيث نسميه الحمام على وجه الحصر، والقسم الآخر يضم التدفئة والخدمات.

رؤية

وفي زيارة المتحف الوطني "بدمشق" التقينا أمين المكتبة "موريس الخوري"، الذي أكد أن الحمام مثل عبر العصور أحد الفضاءات الاجتماعية التي تتمتع بطقوس وثقافة وتقاليد ما زالت حاضرة بين الدمشقيين، ففيه يلتقي الناس من مختلف الفئات الاجتماعية ومن كل المستويات، وقد يبرز التفاضل بينهم من حيث مستويات الحمامات العمرانية وطبقة مرتاديها، أو نوع الخدمة المقدمة فيها، مع أن الهدف العام منها يظل واحداً، وهو الطهارة والنظافة والاسترخاء، وفي ظل ثقافة تقيم وزناً كبيراً للخصوصيات، يبدو حمام السوق، مجالاً من مجالات البحث في التاريخ الاجتماعي، ومكاناً للتواصل بين الناس من مختلف الفئات الاجتماعية، أو محطة لاستراحة المتعبين من العمل في السوق، أو ملتقى للنساء لأهداف مختلفة.

قصص وأساطير

يتوارث الدمشقيون في تراثهم الثقافي الكثير من القصص عن الحمامات، ونختار منها بعض القصص والحكايات التي تروى بقالب أسطوري عن بعض الحمامات.

يروي "مهند المبيض" في كتابه "حمام السوق في العصر العثماني"عن أحد الحمامات أسطورة شعبية ما زالت النسوة المسنات في دمشق يحكينها وهي "إن صاحبة الحمام خرجت لبعض أمورها في السوق وتركت ابنتها وحدها فطلع عليها كنز فأخذت الذهب إلى الإيوان، وعندما رجعت أمها طرقت الباب فردت البنت فانغلق عليها الكنز فطمرها ولم يبق منها إلا شعرها فقيل إنه سمع صوت البنت وهي تستغيث قائلة عطشانة .. عطشانة، فبنيت بحرة في مكان الشعر والحمام الحالي).

أجريت اللقاءات بتاريخ 19 حزيران 2022.