رغم أن أجساد من أغنى المسارح قبل ألفي عام بعروضه الاستعراضية وبمهارته المعمارية قد باتت رماداً، إلا أن لغة فنونهم التعبيرية وآلاتهم الموسيقية لا تزال أصداؤها تُسمع في كل زاوية من زوايا هذه المسارح التي دوٍنت لثقافات مضت عليها مئات السنين، ولتبقى ذلك الكتاب المقروء لمحبي التراث وللباحيين في أعماقه عن خفايا الماضي الذي أرخ للحاضر، ولتبقى مدرجات هذه المسارح الممهورة بتوقيع معماريي القرن الثاني الميلادي، أرشيف الأقدمين المحفوظ في ذاكرة التاريخ ليطّلع عليه السكان الحاليين.

خمسة مسارح

خمسة مسارح شيّد مدرجاتها في القرن الثاني الميلادي معماريو العصر الروماني واليوناني لتحتضن أرضيتها المرصوفة بالحجارة البازلتية، مسرحيات لكتاب يونانيين ورومانيين، إلا أن رياح السنين أذرت اثنين منها، ولتبقى أعمدة مدرجات المسارح الثلاثة الأخرى شامخة حاملة في دواخل دهاليزها ذكرى من أرخ وبنى، وفي هذا السياق يقول رئيس دائرة آثار السويداء "وليد أبو رايد" لمدونة وطن eSYria ": " هنا على بساط الحجارة البازلتية، ومنذ نحو ألفي عام أسدل الكُتاب اليونانيون والرومانيون الستار عن مسرحياتهم وتمثيلياتهم الثقافية، التي ما زالت روح من قام بأدوارها حية ضمن أروقتها، ومن هذه المسارح التي "نبشتها" الأعمال الترميمية لدائرة آثار "السويداء" في تسعينيات القرن الماضي مسرح المدينة، الذي تم إحياؤه بعد موته سريرياً لأكثر من ألف عام، فأخبار من أمتع المتفرجين لم تمحها السنين، فمن تحت الأنقاض عاد المسرح فاتحاً أبوابه من جديد، أمام زائريه، ليطلعوا على فن العمارة وروح الحضارة التي تركها وراءهم من تعاقبوا على إدارته".

في أروقة المسرح

ويتابع "أبو رايد": " ما أشبه الأمس باليوم فمن يدخل بخفايا مسارح أيام زمان سيكتشف أن من كان يديرها وينظم حفلاتها هم من الوسط الثقافي، فاللغة المعمول بها داخل مسرح مدينة "السويداء"، تحاكي وبكل تأكيد المسارح الحديثة، مع اختلاف البناء وتشابه المضمون، فمسرح مدينة "السويداء" المشيد قديماً والناهض من تحت الأنقاض حديثاً، نُقشت على بعض مدرجاته حروف لاتينية حيث كانت بمنزلة البوصلة الدالة على مكان جلوس المتفرج، ومن مدرجاته المرقمة التي التقطتها كاميرا العين وخزّنتها في أرشيف القلب، انتقلت كاميرا التاريخ إلى أروقة المسرح، ودهاليزه فأول ما يصادفك ممراته المصممة للدخول والخروج، وهي الطريق الذي يوصل المتفرج إلى مدرجات المسرح الثمانية المشيدة بطريقة هندسية، ذات لمسة جمالية فهي المبنية بأحجار بازلتية ناعمة نحتت بدقة وإتقان على شكل مقاعد مريحة".

وليد أبو رايد

ألق متجدد

مسرح بلدة قنوات

ينتقل الباحث في حديثه إلى مسرح مدينة "قنوات" ، الذي أبصر نور الولادة البنائية في منتصف القرن الثاني الميلادي، معانقاَ سفح وادي قنوات مستمداً من جماله إبداعات رواده، ملقياً بنظارته على معبد إله المياه، متربعاً وسط بيئة غاية في الجمال، ورغم كل هذا الزمن لا تزال إبداعات الكتاب والمَسرحيين تقص علينا حكايا قناة مياه معبد آلهة المياه المارة وسط المسرح ما بين منصة العرض والباحة، وعلى حجارته البازلتية الناعمة كتب من تفنن ببنائها، أجمل قصائده النثرية المنقوشة على تلك المنحوتات البازلتية، التي لم تنل منها العوامل الطبيعية، ليبقى مسرح بلدة "قنوات" حياً وكتبه الثقافية لم تغلق دفتيها لتاريخه".

ممرات مقببة

وتقول الباحثة في شؤون الآثار "لينا الصفدي": " البصمة الثقافية الممهورة على منصات المسارح القديمة، لم تمحَ لتاريخه، فرغم موت روادها ومن أشعل مدرجاتها حماساً، إلا أن أعمالهم ما زالت مؤرشفة في خزائن التاريخ ومن هذه المسارح التي ما زالت مرجعاً تاريخياً وثقافياً، لمن يقصدها زائراً وباحثاً، مسرح مدينة "شهبا" الذي بني في عهد الإمبراطور "فيليب العربي" ، بعيداً عن مرافق وشوارع المدينة، محاكياً جهتها الغربية،فاتحاً بوابته لاستقبال من أتاه سائلاً عن التاريخ، فمدرجاته ما زالت تواقة لروادها التي افتقدتهم منذ أكثر من ألفي عام، والتي تتألف من طابقين يتخللها ممرات مقببة ما زال يفوح منها رائحة من قطع تذكرة لحضور العروض المسرحية، ولعل الصورة الأجمل تلك المنحوتات البازلتية الناعمة التي استخدمها المعماريون في بناء المسرح وأروقته الداخلية، بدقة وإتقان حيث لا تزال متماسكة مع بعضها بشكلٍ جيد لتاريخه، وليبقى مسرحا "سبع وشقا" الحاضران أثرياً وتاريخياً والغائبان عملياً فقد أذرتهما العوامل الطبيعية ولم يبق منهما سوى ذكرى من أرخ لهما".

لينا الصفدي