كانت "دمشق" ولا تزال زجاجة عطر تعج بالحياة، تغدق على ناظرها بألوان الزهور الفواحة، فتعطي كل من سكنها وعاش فيها إحساساً مرهفاً ينم عن الذوق الرفيع، هكذا دخلت تلك العطور حياة الدمشقيين فرافقتهم في طقوسهم الدينية، وعاشت معهم حياتهم الاجتماعية، فسكنت بيوتهم وظهرت في كلماتهم وتعبيراتهم، وكانت هديتهم المميزة لكل عابر سبيل أو زائر لهذه المدينة الأسطورية العجيبة، فسكنت في حواس المقيم والزائر، ونقلت ما استطاعت من صورة وصوت وملمس عبر تلك الروائح العطرة الفواحة.

عطور دمشقية

في أيام الحج كان الحجاج ينتظرون محمل الحج السوري ليعطروا ويغسلوا الكعبة المشرّفة بماء الورد الدمشقي الذي يصطحبه السوريون معهم برحلة الحج إلى "مكة المكرمة"، فأصبح ذلك تقليداً يقام في يوم "عرفة"، ففي الوقت الذي كان ينتهي الحجاج فيه من أداء مناسك الحج، كانت تتم مراسم إلباس الكعبة ثوبها الجديد وغسلها بماء الورد الدمشقي، هذا ما رواه لمدونة وطن "محمد مازن زكور" شيخ كار حرفة استخلاص الزيوت العطرية وتصميم العطور الذي بدأ بالعمل في هذا المجال من سنوات عدة، فعمل على ابتكار روائح جديدة تواكب متطلبات العصر الحديث، فقد تعلم من والده أن إتقان الصنعة وتجديدها، هما شرطا النجاح الأساسيان في أي حرفة، وخصوصاً أنه أخذ حرفة العطارة الدمشقية وتوارثها عن أجداده، ففي عام 1990 أنشأ ورشة "زكور" للعطور وقد لاقت حرفته رواجاً كبيراً لجودة عطورها وتميزها، وخصوصاً من قبل السياح الذين يبتاعون زجاجات العطر كهدايا مميزة لأقاربهم ويفتخرون بها لأنهم جلبوها من أرض الياسمين.

مراحل عمل

يتابع "زكور": "قطّر الدمشقيون الكثير من الورود كالزنبق والفل والورد والياسمين، واستخرجوا منه ماء الزهر وماء الورد والفل وغيرها، بطريقة "الكركة"، فرغبت بإحياء تلك التقنية القديمة بطريقة تتناسب مع متطلبات وحاجات السوق، فقمت بتطوير جهاز تقطير لاستخلاص الزيوت العطرية بطريقة جديدة تعطي نتائج أسرع وأجود، بالإضافة إلى استخلاص الزيوت النباتية التي كانت بالماضي عن طريق العصر على الحجر القديم والترقيد كعصر الزيتون، فبدأت بالعمل على مكنات عصرية لاستخلاصها كزيت السمسم وزيت جوز الهند وزيت حبة البركة وزيت الجزر والزنجبيل لإنتاج خلطات طبيعية وكريمات علاجية للشعر والبشرة ولترميم الجلد، فقمت بإنتاج خلطات عطرية تجمع بين الطلب المحلي والعالمي، وكانت النتيجة توليفة عطرية جديدة بعبق تراثي شرقي وغربي، كما أدخلت العبق الخليجي كالعود والعنبر على الخلطات الدمشقية".

عطورات زكور

الهرم العطري

مكنات لاستخلاص الزيوت النباتية

ويضيف "زكور": "بدأت بالبحث على شبكة (الانترنت) عن مركبات عطرية بماركات عالمية لدراستها ومعرفة مكوناتها وتركيباتها ونوتاتها العطرية، وبدأت بتركيبها وإضافة لمستي الخاصة عبر إضافة زيوت طبيعية أساسية مستخدمة في تصميم العطور استخرجتها من النباتات والأزهار الدمشقية لرفع مستوى الزيت العطري (كزيت الورد، وزيت الياسمين، والقرفة والقرنفل والهيل)، ودرست الهرم العطري الذي هو عبارة عن ثلاث طبقات (قاعدة وقلب وافتتاحية)، فبكل طبقة توجد نوتات عطرية، وباجتماعها تعمل توليفة متناغمة فكل طبقة قمت بدراستها وأضفت عليها من النكهات التي استخلصتها، فقد أضفت لهذه الحرفة خطاً إضافياً مميزاً ألا وهو استخلاص الزيوت النباتية الطبيعية النقية والتي لها استخدامات علاجية وغذائية وتجميلية عديدة، كتصنيع النكهات الطبيعية الغذائية وتصنيع المنتجات الطبيعية للعناية بالبشرة والشعر، وحصلت على عضوية بالجمعية الحرفية، ولقب أول شيخ كار في حرفة "استخلاص الزيوت العطرية وتصميمها"، ومن خلال هذا التميز في الحرفة حصلت على تخصص في حاضنة "دمر المركزية" للفنون الحرفية، وبدأت بتعليم وتدريب هذه الحرفة، لحرصي على توريث خبراتي للأجيال القادمة وتعليم تفاصيل هذه الحرفة نظراً لأهمية العطور الدمشقية، كما بدأنا بالتعاون حديثاً مع جامعة الشام الخاصة لإقامة أكاديمية حرفية لتعليم الطلاب الحرف التراثية وربطها بالدراسة الأكاديمية بهدف خلق جيل أكاديمي ومهني وحرفي بآن واحد يجمع بين العملي والنظري لكل حرفة".

حصل"زكور" على السجل التجاري لتطوير منتجاته ومنافسة العطور العالمية باهظة الثمن وتقديمها للسوق بأقل التكاليف، وشارك بعدة مهرجانات ومعارض "سورية" وكان آخرها معرض "إكسبو" وحصل على شهادات تكريم ضمن فعاليات تسويق العطور والمنتجات الطبيعية وملحقاتها.

آلة التقطير

تاريخ العطور

تحكي الأساطير أن التاريخ تزوج من "دمشق"، فأنجبت منه الياسمين، فكان زينتها وعبقها وعطرها، ووسمها الذي وسمت به هذا ما بدأت به الباحثة بالتراث الشعبي "نجلاء الخضراء" حديثها لتضيف: "للعطور مكانة خاصة في حياة كل فرد يرتبط أريج الذكريات بها، وتفوح منه رائحة الأحلام والأمنيات، هكذا يعبر كل عطر عن صاحبه، وهكذا عبرت العطور الدمشقية عن مدينتها العريقة، حيث تعد "دمشق" من المدن التي حباها الله تعالى بأنواع نادرة من الزهور والورود، وتعدُّ واحدة من العواصم التي تفوح بالعطور من ياسمينها وفلها ووردها الشامي ضمن أزقتها الضيقة، كما امتلك السوريون كنوزاً ثمينةً من الورود والأزهار الفواحة على المستوى العالمي، فقد دلت الإشارات على هذا التميز وإعجاب الأوروبيين بها وحرصهم على نقلها معهم إلى بلادهم كهدايا إلى أهلهم وذويهم، ما دفع الأوروبيون إلى التعرف على أسرار صناعتها ومحاولة تقليدها، حيث أن العطور الدمشقية هي الأغلى ثمناً بين العطور كما أنها تدخل في تركيب العطور الفاخرة الأخرى".

أسواق العطور

وتتابع الباحثة بالقول: "خصص الدمشقيون لعطورهم أسواقاً تليق بها، بل وصنفوا هذه الأسواق فانفرد سوق العطور عن سوق الرياحين، وهذا الأمر أشار إلى تخصصه بنوع من الورود والزهور، حتى عدت كثرتها عندهم من وسائلهم المهمة في الزينة والعطور ما يدل على أناقتهم في الملبس واعتنائهم بالهندام، فلم يكن يخلُ منزل دمشقي من علبة عطر نسائية أو رجالية، ومن زجاجة ماء الورد وماء الزهر التي كانوا يستخدمونها في تلطيف أجواء المنزل والمحال وحتى الشوارع، بالإضافة إلى المباخر وأنواع البخور وأصنافها المختلفة، والتي كانت الأم أو الزوجة تبخر بها أولادها وزوجها قبل خروجهم من البيت، لاعتقادها بأن هذه الأبخرة والعطور تبعد عنهم الأذى من الحسد والشيطان وغيرها من المعتقدات".

وأما أسواقها فكان فيها نوع من التخصص الذي يعود إلى عدة أسباب منها استبعاد الروائح الكريهة بفصل الأسواق التي تنبعث منها روائح كريهة، إضافة إلى حبهم الاحتفاظ بأسرار مهنتهم وعدم مشاركة الآخرين فيها، فكان سوق "العطارين" من أهم أسواق العطور والعطارة الدمشقية وأقدمها، حيث احتفى هذا السوق بتجارة العطورات والنباتات العطرية المجففة.

روائح الأمكنة

يقولون للأمكنة روائح تعشش بالذاكرة وتلهب المخيلة فما هي الحال في مدينة تعبق منازلها القديمة برائحة الياسمين وتعج شوارعها برائحة الوردة الدمشقية.

هي "دمشق" التي تحمل في كل ركن من أركانها حكاية فريدة مشغولة برائحة خاصة ولأنها أقدم عاصمة في العالم، فمن الطبيعي أن تكتسب أسواقها سمعة وشهرة عالمية، كيف لا وقد كان أكثر أهلها تجاراً ساهموا في نشر ما تميزت به من عطور خلابة وروائح ثمينة ندر وجودها في كل أصقاع المعمورة، فأخذوا ممن سبقهم وتفاعلوا معه وصهروه ليخرجوا منه شخصيتهم الأنيقة المحبة للجمال المتقنة للغاته العالمية بتفاصيله، فأصبحوا رواداً بصناعة العطور وخصوصاً أنهم تجارٌ تنقلوا في أصقاع الأرض، فأحضروا معهم ما احتاجوه من نباتات وأعواد وأوراق عطرية أضافوها لما عندهم ثم أعادوا نشر عطورهم الخاصة بهم، فكان لهم وسمة خاصة لا تضاهى ولا تنسى.

أجريت اللقاءات بتاريخ 28 أيار.