يحسب للمكتبات المدرسية في "حلب" خلال فترة الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات، دورها وأهميتها في تشجيع الطلاب على تنمية مواهبهم الأدبية والثقافية والسماح لهم بالاستعارة من فوق رفوفها وضمن مدة محددة، حيث كانت تحتوي تلك المكتبات على نوعية مميزة من الكتب الأدبية والتاريخية والعلمية، إضافة لبعض المجلات، مما جعل الطلاب يتسابقون فيما بينهم لقراءة القصص والكتب الموجودة.

ومن هذه الواقعة بدأ "عمر دهام" في خمسينيات القرن الماضي رحلته ومسيرته في هواية قراءة الكتب والقصص التي تقع تحت يديه، لينتهي به المطاف بامتلاكه مكتبة متنوعة شاملة في عناوينها تحتوي على أكثر من ستة الآف كتاب ومجلد.

حرصت منذ كنت طالباً في الجامعة على تكوين مكتبة منزلية وبدأتها بالحفاظ على كتبي الجامعية، واتبعتها بشراء كتب علمية وتاريخية وأدبية شاملة، حتى وصل عدد الكتب في مكتبتي لأكثر من ألفي عنوان. وأعدُّ الكتاب هو رفيقي الدائم ومصدري الموثوق لأي معلومة يمكن النقاش والتحدث فيها، مكتبتي مفتوحة أمام الجميع ولمن يرغب شرط مراعاة قيمة واهمية الكتاب وإعادته في وقته كي يستفيد منه الجميع

الوالد المعلم

موقع مدونة وطن "eSyria" زار مكتبة "عمر دهام" "أبو فاتح" في منزله المتواضع في حي "سيف الدولة"، واستمع منه لشرح موسع عن رحلته التي تمتد لأكثر من أربعين عاماً في هواية قراءة وجمع الكتب.

ضيق المكان حال دون توضيبها بالشكل الأمثل

يبدأ "دهام" حديث الذكريات للمدونة بالقول: «منذ نعومة أظفاري وخلال المرحلة الابتدائية كان والدي المدرس لمادة اللغة العربية هو ملهمي في زرع وتنمية هواية القراءة للكتب، سواء التي كنت أستعيرها من مكتبة المدرسة أو تلك التي كنت أشتريها من سوق البسطات، وكان والدي حريصاً جداً على متابعتي ونصحي وانتقاء الكتب ذات المغذى الثقافي والأدبي المفيد، وزاد في الأمر المجلات والسلاسل الدورية التي كان مشتركاً بها وتصلنا تباعاً، ومع تطور الأمر أقدم والدي مع زميله المدرس "عبد الحميد قلعة جي" في عام 1965 على افتتاح مكتبة عامة في طلعة "خان الوزير"، حيث كان يتم تزويدها وتغذيتها من دور النشر المصرية واللبنانية، وكنت على اطلاع دائم بأحدث الكتب التي تصلنا، وبعد فترة انفضت الشراكة بينهما، وبقي والدي وحيداً يمارس المهنة، ونتيجة صعوبة الجمع والتوفيق بين مهنته كمدرس والعمل بالمكتبة أقفل والدي المحل وطلب مني نقل الكتب المتبقية لمنزلنا لتكوين نواة لمكتبة منزلية مع الكتب التي كنت أفوز بها بالمسابقات المدرسية من خلال حفظ الأشعار وإلقاء قصائد الخطابة والمواضيع التعبيرية التي كنت متفوقاً بصيغتها، وفي مدرسة "سيف الدولة" بالمرحلة الإعدادية استعرت من مكتبة المدرسة كتاب "البخلاء"، وقرأته من الصفحة الأولى حتى النهاية، وهكذا استمرت علاقتي الودية مع المطالعة وشراء الكتب حتى حصولي على الشهادة الثانوية وتسريحي من خدمة العلم، وفي أول راتب قبضته من العمل الوظيفي قمت بشراء كتاب الحيوان "للجاحظ"، المؤلف من ثمانية مجلدات بمبلغ مئة وستين ليرة، واتبعت ذات الطريقة وبشكل دوري باقتطاع جزء من رواتبي الشهرية بشراء روايات "نجيب محفوظ" و"محمود تيمور" و"إبراهيم المازني" و"أرسين لوبين" ورواية "عمارة يعقوبيان" ومضمون كل كتاب جديد كان يعجبني».

كتب بدل الأجرة

وحتى تزداد خبرته يضيف "دهام": "ذهبت للعمل بأكبر مكتبة عامة في حي "أقيول" عند "الحاج عمر زيتوني" صاحب مكتبة "التراث الإسلامي"، وفيها تعرفت واطلعت أكثر على آلية التواصل مع كبرى دور النشر العربية، وأهم الطبعات والمجلدات الأدبية والتاريخية الصادرة، وكنت في كثير من الأحيان أقايض أجرتي الشهرية بأخذ عدة كتب جديدة لإضافتها لمكتبتي المنزلية، ومن خلال عملي بالمكتبة توسعت معارفي مع أصحاب وأهم المكتبات المنزلية في مدينة "حلب" وباقي المحافظات، إضافة للحضور الدائم والشراء المباشر من معارض الكتب في "دمشق" و"بيروت" و"مكتبة الأسد"، وكذلك بعض المكتبات الشخصية.

كتب ومجلدات قيمة وثمينة

عناوين ومجلدات

شهادات أدبية - كمال استانبولي - المهندس علي الخويلد

وخلال زيارتنا له راح "عمر دهام" يشرح ويفصل لنا قصة وحكاية شراء كل كتاب ومجلد وموسوعة قائلاً: «كما ترى مكتبتي غير مرتبة ومنظمة والسبب ضيق المكان في منزلي المتواضع، حيث شغلت المكتبة أكثر من نصف المساحة وبغرفتين من أصل ثلاث، ما أوقعني بالحرج أمام عائلتي التي تريد إيجاد حل لهذا الوضع مع تقدم أولادي في العمر وحاجتهم لغرف مستقلة.. يوجد لدي أكثر من ستة آلاف عنوان بعضهم بالطبعة الأصلية والنادرة وطابع تلك الكتب هو الأدبي بأنواعه (الشعري والقصصي والروائي والتحقيقي) والإسلامي والتاريخي والتراثي والفلسفي، مع عدد كبير من القواميس العربية والنحوية والأجنبية وكتب للدراسات النقدية، ولا يوجد شاعر او فيلسوف عربي قديم أو جديد إلا وله ديوان في مكتبتي».

الأزمة تسرق الكتب

وعن هموم ومخلفات الأزمة على المكتبة والنزوح من منزله يقول "دهام": "وصلت ذيول الحرب في عام 2012 لمنطقة سكننا بـ"حي سيف الدولة"، وفوراً حزمنا امتعنا وعلى عجل خرجنا من المنزل، وكان هاجسي إيجاد طريقة سريعة للحفاظ على المكتبة ولو بالقدر المستطاع لكن الوقت لم يسعفنا، ووضعت ما أستطيع من الكتب في ستين كرتونة رافقتنا بالنزوح نحو "ضاحية خان العسل"، ولكن المؤلم والمحزن أنها ذهبت معنا ولم تعد معنا للمدينة، لانتقال الحرب ثانية نحو الضاحية ما حتم علينا مغادرة المنطقة التي نزحنا إليها فوراً والبحث عن مكان آخر أكثر أماناً، وبعد التحرير عدت أبحث عن كتبي في الضاحية ولكن للأسف لم أجد منها شيئاً. مما شكل عندي حالة حزن وأسف وصدمة على فقدان كتب في غاية القيمة والأهمية الثقافية والعلمية كنت قد اشتريتها من مصروفي الذي اقتطعته من لقمة عيشي.

عناوين نادرة

يحرص "دهام" على تجليد أغلب الكتب والموسوعات والأجزاء بمكتبته للحفاظ عليها من التلف ولو بكلفة مادية مرتفعة، ومن أهم العناوين "قصة الحضارة" بـ عشرة مجلدات، وأعمال الكاتب الروسي "دوستويفسكي" وموسوعة" عناقيد الغضب" و" موسوعة حلب" للكاتب "خير الدين الأسدي" و"رحلة ابن بطوطة" بخمسة أجزاء" وكتاب "أمبرتو إيكو" و"البؤساء" للمؤلف "فيكتور هيغو" و"الكوميديا الإلهية" "لدانتي اليجيري" و"الجحيم" من ثلاثة مجلدات وكتاب "مقبرة براغ" وكتاب "تراث الانسانية" والذي يحكي في محتواه شرحاً لأهم الكتب الصادرة بالعالم وهو يعدُّ من الكتب النادرة.

المكتبة للورثة

يضيف "دهام": "هذه المكتبة التي جمعتها على مدار أكثر من أربعين عاماً، هي كنز حياتي وثروتي الثقافية التي لا تقدر بثمن، كتبها وأحرفها وعناوينها ومجلداتها كانت رفيقتي في الأيام الصعبة والحلوة التي عشتها، نهلت الكثير من علومها الثقافية والأدبية والمعرفية، ولا أستطيع تصور منزلي من دونها وهي تملأ الرفوف والجدران، والجميع يدرك قيمة المعلومة الموجودة بالكتاب حيث تكون دقيقة وموثقة يمكن الاعتماد والتحدث والنقاش فيها بطلاقة، عكس معلومة وسائل التقانة الحديثة حيث تكون متضاربة ومتناقضة في أجزاء كثيرة منها، وأثبتت التجارب أن قراءة وتقليب ورق الكتاب يرسخان المعلومة وينعشان الذاكرة".

وختم حديثه للمدونة: "زارني الكثير من الأدباء والشعراء والمختصين، وعرضوا علي أرقاماً مالية كبيرة لشرائها، فرفضت وقد وهبتها لورثتي والأجيال اللاحقة من أحفادي ومن يرغب أن يطلع عليها، كي يذكرونني بالخير والمعرفة والدعاء".

شهادات أدبية

"كمال استانبولي" صاحب مكتبة عامة في المدينة قال: «المكتبة المنزلية كانت ركناً مهماً من أركان بيوت الأدباء والمثقفين الحلبيين في العقود الماضية، حيث ساهمت بنهضة وازدهار العلم والمعرفة والندوات، وقد زرت واطلعت على المكتبة المنزلية الخاصة بـ "عمر دهام" ووجدتها مكتبة قيمة وشاملة بعناوينها وموضوعاتها ومجلداتها، وعرضت عليه شراءها بشكل كامل أو جزئي كما يرغب، لكنه رفض وقدرت موقفه هذا، فالكتاب والمكتبة هما عنوان الحضارة للشعوب المتحضرة في العالم. وعلينا جميعاً تربية أولادنا وأحفادنا على فكرة تأسيس مكتبة في كل منزل تحوي العلوم المفيدة لهم».

المهندس" علي خويلد" صاحب مكتبة منزلية قال: «حرصت منذ كنت طالباً في الجامعة على تكوين مكتبة منزلية وبدأتها بالحفاظ على كتبي الجامعية، واتبعتها بشراء كتب علمية وتاريخية وأدبية شاملة، حتى وصل عدد الكتب في مكتبتي لأكثر من ألفي عنوان. وأعدُّ الكتاب هو رفيقي الدائم ومصدري الموثوق لأي معلومة يمكن النقاش والتحدث فيها، مكتبتي مفتوحة أمام الجميع ولمن يرغب شرط مراعاة قيمة واهمية الكتاب وإعادته في وقته كي يستفيد منه الجميع».

تم إجراء اللقاءات والتصوير بتاريخ العاشر من شهر نيسان لعام 2022 بمنزل السيد "عمر دهام" بحي "سيف الدولة".