في مناطق "صافيتا و مشتى الحلو وكفرون وعيون الوادي"، تلك المناطق الولّادة للفكر والعلم والتي أنجبت الاطباء والأدباء والباحثين والفنانين وغيرهم، برزت أسماء عشقت اقتناء الكتب لتتحول منازلهم إلى صالونات ثقافية تستقبل من يود أن يقرأ، ومنها من توسع بالمساحة وعدد الكتب لتكون مكتبات عامة متاحة أكثر.

المكتبات الشخصية

من "الكفرون" لمع اسم العميد الركن المتقاعد والمؤرخ التاريخي "توفيق نصار" 1943-2022 وهو بطل من أبطال الجيش السوري، ذاع صيت ذاكرته الفولاذية التي انتصرت في الميدان وفي حفظ آلاف الكتب التي كان يخصص لها يومياً ثلاث ساعات مقدسة، أتقن خمس لغات، وترجم العديد من الكتب، كما وثّق تاريخ المنطقة، وقام بتجميع كتبه من زياراته إلى الخارج على مدى ستين عاماً، منها الفلسفي والتاريخي والأدبي والديني والروايات العالمية والعربية، ويقدر عددها بـ 2000 كتاب كان أهالي القرية يستعيرون الكتب منها، خاصة الطلبة الجامعيين لاعتبار مكتبة نصار مرجعاً لهم بالإضافة إلى الاستعانة به شخصياً في أي بحث يُسأل عنه .

في "مشتى الحلو"

من المكتبات الشخصية أيضا مكتبة الراحلة "جميلة فاضل خوري" الناشطة الإنسانية والمثقفة المخضرمة، ويهتم بالمكتبة اليوم قريبها السيد "نذيه خوري" والذي يقول في حديثه لمدونة وطن "eSyria": ": "جميلة خوري" ابنة مشتى الحلو 1922-2021 أسست أكاديمية التمريض في "سورية" ودول عربية أخرى، لم تتوقف عند هذا الحد، بل حصلت فيما بعد على عدة شهادات علمية صقلت بها رسالتها الإنسانية التي توسعت دائرتها، و من البديهي من يملك هذا الشغف العلمي أن يكون قد تأسس في بيئة ثقافية منذ الطفولة، فمكتبة الأب كانت أول مكتبة في "مشتى الحلو"، وحتى وهي على فراش الشيخوخة لم يفارقها الكتاب.. مكتبة منزلها زاخرة بالكتب المتنوعة والشاملة بعدة لغات منها الأدبي والتاريخي والفلسفي وكتب فكرية، والكتب التي تعنى بالقضية الفلسطينية، والكتب الدينية، كذلك كتب التمريض باللغتين العربية والإنكليزية وبعض الروايات العالمية، عددها حوالي 1500كتاب، قامت بجمعها خلال مسيرتها الطويلة، استقبلت أبناء المشتى في منزلها الفخم، تشجيعاً منها لهم على المطالعة وما زالت مكتبتها على حالها بعد رحيلها".

مكتبة جانيت رباحية

مبادرات فردية

قاعة المطالعة في مكتبة جانيت رباحية

هناك مكتبات عمّرها فعل الخير، كمكتبة "جانيت رباحية" في "عيون الوادي", التقت مدونة وطن "esyria" مع أمين مكتبتها "ريمون طعمة" حيث يقول:" تأسست المكتبة عام 1997و كان الافتتاح الرسمي لها عام 2001 من قبل المتبرع د."حنا الياس معلوف" ابن القرية الذي بنى في قريته صرحاً خيرياً سمي بالنادي الثقافي الاجتماعي حيث أراد إعادة إحياء الحياة الثقافية في المنطقة، بالتعاون مع شبابها الطموحين إلى بناء قاعدة مجتمعية سليمة أساسها إعادة تأهيل الفكر بعد أن اجتاحته الشوائب، لتكون المكتبة باباً عريضاً من عدة أبواب نهضوية في هذا النادي.. فتبرع بالمكتبة التي حملت اسم زوجته تخليدا لذكراها، وتيّمناً به، تبرع آخرون بعدة كتب بتخصصات مختلفة .

يقدر عدد الكتب الموجود في مكتبة "جانيت رباحية" بـ 10 آلاف نسخة رئيسية مبوبة ضمن جداول، وتمت طباعة نسخ متعددة عن الكتب الرئيسية ليصبح مجموع الكتب حوالي 22 ألف كتاب .

مكتبة جانيت رباحية

ويشير "طعمة" إلى أنواع الكتب ومنها الشعر وفن الطبخ، والرسم، والكتب العلمية والتاريخية، والدينية، والروايات العالمية والأدب الروسي والعالمي, و تعتبر الكتب التاريخية و الشعر و الروايات من أكثر الكتب طلباً و هناك قسم يعنى بالأطفال اسمه "المكتبة الخضراء"، ومن الملاحظ اهتمام الأطفال باستعارة الكتاب وإعادته بالوقت المحدد.

أرشفة وتوثيق

ويضيف "طعمة": تتم أرشفة الكتب وجدولتها ضمن أرقام معينة حسب نوعها، يختار القارئ الاسم وبجانبه رقم الكتاب ويحصل عليه فوراً من قبل أمين المكتبة، وتتم إعادة الكتاب أو تجديد إعارته ضمن التوقيت المسموح به، ورسم الاشتراك رمزي للغاية حوالي500 ل.س في الشهر تعود لمكتبة النادي وصيانتها وراتب المشرف عليها، ناهيك بقبول التبرعات المادية، أو العينية المتمثلة بتقديم الكتب.. ترتاد المكتبة أعمار متفاوتة بدءاً من طلبة المدارس، وأيضا كبار السن المهتمين بالمطالعة التي تعتبر رياضة للذاكرة، وتتركز اهتمامات من هم بعمر 15-30 عاماً بالكتب التي تعنى بالشعر والروايات وتاريخ الأديان، وأما من هم 60عاماً وما فوق فيطلب معظمهم الكتب التاريخية .

يقول "طعمة" إن وباء كورونا وأزمة الكهرباء والوضع المعيشي الصعب، كل ذلك لعب دوراً مهماً في خمول المكتبات، وهنا يجب التنويه إلى الارتفاع الخلبي بأسعار الكتب المدرسية وجميع المراجع والروايات، أما الشريحة المتوسطة أو الغنية فقد حافظت على نمط حياتها بشراء الكتاب كما المعتاد.

ويبين "طعمة" أنه تتم دراسة مشروع إنشاء مكتبة موسيقية، وقريباً سيتم عمل استبيان شهري للمكتبة يقيّم مستواها ويسّجل نسبة الإقبال ونوع الكتب المطلوبة والأعمار، والمؤشرات الحالية المتذبذبة تستدعي التحدي والمثابرة على جذب الشباب الذي "يغوغل" أي معلومة ويستبدلها بالكتاب الورقي، حسب قوله.

ويتابع أنه وبسبب وجود المكتبة ضمن النادي الثقافي الاجتماعي المعني بعدة نشاطات وضعنا خطة ليتفرع نجاحها إلى كل الفروع، كدعوتنا لأسماء فكرية لامعة حاضرت في الندوات الثقافية، كما قدمنا المحاضرات الطبية والنشاطات الفنية، بالإضافة إلى وجود كشافة الأطفال التي تتدرب بجانب المكتبة، جميعها عوامل مساعدة لجذب جميع الفئات إلى المكتبة.

مكتبة "وديع بشور"

أسماء لامعة تفتخر بها هذه البقعة الجغرافية الخصوبة، وكثرٌ تحولت كتبهم المركونة في إحدى غرف المنزل إلى مكتبة عامة متاحة للجميع، كمكتبة الدكتور "وديع بشور" من "صافيتا"، درس الطب في الجامعة الأمريكية في "بيروت" ثم اختص بأمراض القلب من جامعة "فيينا"، حاضَر وعمل في الجامعات السورية ومشافيها، وبدأ اهتمامه بدراسة التاريخ وله العديد من الملفات.

يقول الدكتور "حليم جرجس" مدير جمعية البنيان في "مشتى الحلو" :" إن أهم أولويات جمعية البنيان دعم العلم والتعليم ونشر ثقافة "إقرأ"، حيال ذلك تم التواصل مع أبناء "بشور" بعد رحيله، و طُرحت عليهم فكرة التبرع بكتب والدهم لمكتبة الجمعية، ولاقت الفكرة الترحيب تخليداً لاسمه الكبير وليستفيد الجميع من إرثه الثقافي الضخم المعروض حالياً في مكتبة جمعية البنيان التي تشكرهم على ثقتهم بفريقنا.. ويتراوح عدد الكتب فيها حوالي 1500كتاب منوع، منها الطبي والثقافي, لوحات طبية وكتب ودراسات تاريخية بالإضافة إلى مؤلفاته الخاصة، وبعض الكتب باللغة الانكليزية".

طي النسيان

وتعد مكتبة الأديب "غانم بو حمود" الضخمة في "صافيتا" أنموذجاً للمكتبة الشخصية التي تحولت إلى عامة متاحة للجميع.

وهناك مكتبات ازدهرت في الماضي و لاحقا وضعت في أكياس سوداء ضمن مستودعات تفتقد مقومات الحفظ، كمصير مكتبة البروفيسور" منير موسى" من المشتى، خريج جامعة السوربون في علم النفس، وصاحب55 مؤلفاً حيث التقت مدونة وطن بولده "نوار موسى"، الذي أسف على مصير كتب والده و كان عددها 2500كتاباً. فبعد وفاة الوالد وزِّع بعضها على الأصدقاء والمعارف، وما تبقى حاولوا تقدمتها لمكتبات خاصة، و لضيق مساحة المنزل، اضطروا إلى وضعها في مستودع و معظمها تعرض للتلف.