لعبت المكتبات الحلبية خلال فترة الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، دوراً مهماً وبارزاً في ازدهار وتطور الحركة الثقافية والأدبية والعلمية في مدينة "حلب"، من خلال كثافة وجودها وأهميتها ومكانتها، حيث فرضت تلك المكتبات نفسها بقوة كأحد أهم المعالم المتحضرة بالمدينة من خلال تميزها واحتوائها على أهم النسخ والعناوين والطبعات التي تهافت على اقتنائها ومراجعتها العلماء والمثقفون وطلاب المدارس والجامعات ورجال الدين، للتزود من علومها والنهل من معارفها وكل حسب الاختصاص الذي يبحث فيه ويرغبه ويحتاجه.

مكتبات "باب الأحمر"

يقال إن حي "باب الأحمر" الواقع بجانب القلعة، كان هو الملتقى الرئيسي لسوق تلك المكتبات المتاخمة لبعضها، حيث ضمت داخلها وفوق رفوفها مختلف العناوين والأبحاث، وشهدت نشاطاً بالإقبال على حب الاطلاع والبيع.

قررت افتتاح مكتبة عامة مع دار للطباعة والنشر خاصة بي في وسط شارع "أقيول"، كان ذلك في بداية عام 2006، وبالفترة نفسها شهد السوق افتتاح عدد كبير من المكتبات ووصل عددها إلى اثنتي عشرة مكتبة في شارع قصير لا يتجاوز طوله المئتي متر، وأهم تلك المكتبات على ما أذكر "العلا" و"فكر المستقبل" و"الفلاح" و"زهرة المستقبل" و"المكتبة الأموية" و"القلم" و"أسامة بن زيد" و"الفلاح" وكان هذا السوق قبلة الأدباء والمهتمين لعلوم المعرفة، وشكل مع سوق "الحلبوني" بمدينة "دمشق" ثنائية وتعاوناً وتبادلاً ناجحاً لأبعد الحدود في البيع والشراء والمعرفة والمراسلة لأهم الكتب القديمة والحديثة والطبعات الصادرة

ومع تطور الحياة العمرانية في المدينة وبعد حقبة الثمانينيات انتقلت أغلب مواقع تلك المكتبات لوسط المدينة، وزاد حرص بعض أصحاب المكتبات على شراء محلاتهم بالقرب من الجامعة وذلك لازدياد وتنشيط حركة بيعهم وتعاملهم مع دكاترة وطلبة الجامعات وأصحاب البحث العلمي.

صاحب المكتبة كمال استانبولي

موقع مدوّنة وطن زار مكتبة "استانبولي" الشهيرة والقديمة الواقعة في وسط حي "أقيول" واستمع من صاحبها "كمال" لقصة وحكاية تعلقه وعمله منذ سنوات طويلة بهذه المهنة الأدبية والثقافية فقال: «يعدُّ والدي الراحل "الحاج يحيى استانبولي" من مؤسسي أول وأقدم مكتبة عامة في سوق "باب الأحمر" في "حلب" القديمة، إضافة لمكتبة "عجان الحديد" بمدخل "خان الوزير"، وذلك فترة الستينيات من القرن الماضي، وهواية جمع الكتب بدأت عند والدي من خلال حبه وتعلقه بالمطالعة للكثير من الكتب الإسلامية والتاريخية والأدبية التي كانت تقع تحت يديه، والتي كان يشتريها من بسطات الكتب المستعملة، حتى جاءته الفكرة بتجميع تلك الكتب التي قرأها ضمن مكتبة منزلية خاصة به يرجع إليها متى شاء ويستفيد ويستعير منها من يرغب، ومع تقدمه بهذا المجال وازدياد خبرته، أقدم في عام 1960 على شراء محل مع مستودع صغير بحي "باب الأحمر" بغية تحويله لمكتبة عامة في السوق، وبدأ بمراسلة دور النشر في "بيروت" و"مصر" و"دمشق" لأجل شراء أحدث الطبعات والعناوين والأبحاث لتزويد المكتبة بها، وذاع صيت المكتبة بالسوق بما احتوته من كتب وعناوين وأبحاث قيمة، حتى وصل عددها إلى خمسة آلاف عنوان في مختلف المواضيع، فيما وصل عدد الكتب في مكتبته الشخصية إلى ضعف الرقم السابق».

قبلة للمهتمين

ويذكر "كمال" أن كبار دكاترة الجامعة والمدرسين في كلية الأداب كانوا في زيارات دائمة لمكتبة والده العامة للاطلاع على الكتب الجديدة الواصلة للمكتبة أمثال الدكاترة "صلاح كزارة" و" وضاح سيد وهبة" و"أحمد قدور" إضافة للراحلين "محمد حموية" و"عبد الكريم الأشتر" و"أحمد هبو"، وعموم المهتمين بالثقافة والأدب، وكل تلك الخطوات كان الابن "كمال" حاضراً ومشاركاً فيها ويعرف تفاصيلها وأهميتها وطريقتها بتزويد مكتبة والده بالنسخ والطبعات الحديثة.

المدرس المتقاعد محمد مصطفى الحسين

ولأن المهنة استهوته كثيراً بعد الخبرة التي حصل عليها من عمله الطويل بمكتبة والده كما يروي للمدونة، قرر "كمال" العمل منفرداً وافتتاح مكتبة خاصة به في حي "أقيول"، وتضاعفت مهامه مع شقيقه الأصغر بعد وفاة والده في عام 2009 مع تسلم الأمور الفنية والمالية والإدارية لمكتبة والده الراحل بغية الحفاظ على مقتنياتها الثمينة من الضياع والاندثار.

في شارع "أقيول"

ومتابعة للمهنة والهواية الثقافية التي تعلمها واشتغل فيها مدة طويلة من الزمن في مكتبة والده، وحرصاً على مكتبة والده الثمينة من الضياع يقول "كمال": «قررت افتتاح مكتبة عامة مع دار للطباعة والنشر خاصة بي في وسط شارع "أقيول"، كان ذلك في بداية عام 2006، وبالفترة نفسها شهد السوق افتتاح عدد كبير من المكتبات ووصل عددها إلى اثنتي عشرة مكتبة في شارع قصير لا يتجاوز طوله المئتي متر، وأهم تلك المكتبات على ما أذكر "العلا" و"فكر المستقبل" و"الفلاح" و"زهرة المستقبل" و"المكتبة الأموية" و"القلم" و"أسامة بن زيد" و"الفلاح" وكان هذا السوق قبلة الأدباء والمهتمين لعلوم المعرفة، وشكل مع سوق "الحلبوني" بمدينة "دمشق" ثنائية وتعاوناً وتبادلاً ناجحاً لأبعد الحدود في البيع والشراء والمعرفة والمراسلة لأهم الكتب القديمة والحديثة والطبعات الصادرة».

قسم الإعارة المجانية داخل المكتبة لطلبة البحث العلمي

وضمت مكتبته العامة كما يروي "استانبولي"، كتباً أدبية وعربية نادرة وقيمة في العلوم الحقوقية وطب الأعشاب، وقواميس اللغة العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية. ودواوين شعرية، ومؤلفات يفوق عمرها أكثر من مئتي عام "للجيلاني" و"محمد إبراهيم" و"أحمد حجي كردي"، وموسوعة "خير الدين الأسدي"، وكتاب الحيوان "للجاحظ" و"إحياء علوم الدين" للغزالي، وكتب "راغب الطباخ"».

مشاركات المعارض

مشاركات الدار بالمعارض الدولية لم تتوقف رغم الأزمة، ويعدد "كمال" مشاركة مكتبته بأكثر من عشرين معرضاً للكتاب في العالم ما بين أعوام 2010 وحتى 2021، كانت في "المغرب" و"تونس" و"مسقط" و"القاهرة" و"السودان" و"الشارقة" و"مكتبة الأسد" بـ"دمشق" بشكل سنوي، عارضاً فيها نماذج من كتب داره وبمختلف العناوين والطبعات القديمة والحديثة.

ويضيف أن الأسعار تنخفض نوعاً ما في المعارض نتيجة التنافس فيما بين دور النشر العارضة، مما يسهل مهمة القراء باقتناء حاجاتهم من المراجع العلمية والأدبية، وأكد أنه نتيجة ظروف الحرب المنصرمة أقفلت المكتبة أبوابها منذ بدء عام 2013، وتم ترميممها وإعادة إفتتاحها في عام 2017، وخلال تلك الفترة نقلت المكتبة جزءاً كبيراً من محتوياتها ومنشوراتها وعملها لمدينة "القاهرة"، وشاركت باسمها المعروف بكل المعارض الدولية.

غلاء الأسعار

ويعترف "كمال" بانخفاض كبير في نسبة المبيعات في الوقت الحالي مقارنة بالأعوام السابقة، ويعود ذلك لغلاء المواد الأولية المكونة للكتاب من ورق وطباعة وتجليد وتنضيد، مما يجعل العديد من الطلبة يتشاركون فيما بينهم لشراء مرجع وحيد يتقاسمون دفع سعره ثم يلجؤون لتصويره عدة نسخ.

وتشجيعاً للطلبة أصحاب حلقات البحث في الجامعات، قام صاحب المكتبة بتخصيص جناح خاص لإعارة الكتب مجاناً لمدة أسبوعين،

والعامل الثاني يعود لوجود أجهزة التقانة الحديثة من حواسيب وموبايلات وإنترنت حيث أصبحت كل العلوم متاحة.

شهادات أدبية

يقول مدرس اللغة العربية المتقاعد "محمد مصطفى حسين" 58 عاماً: « أنا من عشاق القراءة والكتب والمكتبات منذ كنت طالباً في المرحلة الثانوية، وأكملت هوايتي خلال دراستي الجامعية بكلية الآداب من خلال التردد على كل المكتبات في السوق، ولم أترك رواية عربية او عالمية إلا وقرأتها، وحسب ظروفي المادية أحياناً ألجأ إلى الشراء المباشر وأحياناً إلى الاستعارة، ويضيف أهوى القراءة من الكتب مباشرة ولا أحبذها من وسيلة أخرى، حيث أثبتت التجارب أن القراءة والمعلومة من الكتاب ترسخ وتنشط في الذاكرة عكس الأجهزة الحديثة، لا شك أن لمكتبات المدينة فضلاً في نشر الأدب والمعرفة والعلوم بين أبناء المجتمع، وعلينا جميعاً دعم هذه الشريحة ومساعدتها للحفاظ على مهنتها من الاندثار، وتحول مكتباتهم لمحلات طعام والبسة واجهزة حديثة وإن حدث ذلك تكون الثقافة قد وقعت في خسارة لا تعوض».

بينما شكا الطالب الجامعي "محمد شون" من غلاء وارتفاع أسعار بعض المراجع العلمية الخاصة بدراسته في قسم المعلوماتية، ولكن هذا حسب رأيه لا يمنع من زيارة المكتبات وإيجاد الحلول مع بعض زملائه للتشارك وشراء مرجع علمي او قاموس، مضيفاً أنه يفضل أخذ المعلومة من الكتاب لأنها تكون موثوقة ومؤكدة عكس الانترنت حيث تكون متضاربة ومتناقضة ولا مرجعية لها، وختم اعتبر الكتاب والمكتبة من أهم حاجات نشر المعرفة للمجتمعات وضرورة وجودهما في كل منزل.

ولأهمية الكتب والمكتبات نختم ببعض الأشعار العربية والحكم الأجنبية منها:

ألا يا مستعير الكتب دعني

فإن إعارة الكتاب عار

فمحبوبي من الدنيا كتابي

وهل رأيت محبوباً يعار

فيما قال الشاعر العربي "أبو الطيب المتنبي"

أعز مكان في الدنيا سرج سابح

وخير جليس في الأنام كتاب.

أما الحكمة الإيطالية فتقول

لا تعر كتابك لأحد فإنه لن يعيده إليك.

والحكمة الألمانية تقول

لا ينمو العقل بالطعام والشراب بل ينمو بالمطالعة والقراءة.

تم إجراء اللقاءات والتصوير داخل مكتبة "استانبولي" بحي "أقيول" بتاريخ الخامس والعشرين من شهر نيسان لعام 2022.