لا يزال الأديب والمترجم "صباح حواصلي" يقدم للمكتبة السورية والعربية، مجموعات من الأعمال المهمة، ويعدُّ بعضها مرجعاً مهماً للمهتمين في مجالها، وهي تدل على صفاء معرفي عميق واهتمام ثقافي واسع قلّ نظيره، ليلامس قلوب القراء ويحاكي ذاكرتهم بحيثيات ومغزى كل قصة يكتبها.

القصة الأولى

لم يختر مجال الكتابة وترجمة النصوص فحسب، بل وجد نفسه ساعياً متلهفاً للكتابة، يقول الأديب "حواصلي": «البداية كانت مع الحكايات التي كنت مفتوناً بسماعها من أمي وجدتي، ومن متلقٍ لهذه الحكايات أصبحت حكواتياً أقص ما حفظت منها، وفي لحظة خلقٍ لا قدرة لي على سبر كنهها وجدت نفسي أخرج عن طور الحكايات الشعبية الموروثة لأصبح مبدعاً لها، فقد صارت لي حكاياتي الخاصة التي كنت أرتجلها، وأسيّر أحداثها وأبطالها بما يمليه علي خيالي التواق إلى عالم مليء بالاكتشاف والمغامرة والرغبة في التشويق، لأستغني في حكاياتي عن الشطح والأساطير واللا معقول، وأخلق بطلاً مخلّصاً لا نظير لقوته وبطولته يعيش عصرنا وأدواته، مستقل في رأيه، يعشق العدل والحق ونصرة المظلوم».

يشعر القارئ لأعمال الكاتب أنه يكتب بقلبه لا بقلمه، حيث تنساب لغته هادئة حانية فيها البساطة والعمق والشاعرية، وتميزه التفاصيل الدقيقة التي يرويها عن دمشق وحواريها وأبنيتها وأهلها وذكرياته التي عاشها من أماكن وعادات وطبيعة وحتى روائح الزهر والشجر، لغته خالية من التكلف والتصنع تنساب في ذهن القارئ كالماء الزلال، يصف حنينه وشوقه بعبارات تأخذك لفضاءات واسعة تشعر بعدها أنك أمام كاتب مغرم بـ"دمشق" وبـ"سورية" وطنه الذي يحن إليه ويتمنى لو يعود

ويضيف: «عندما اشتد عودي في الكتابة في مستهل المرحلة الإعدادية، أصبحت راغباً في إنشاء مجلة مصورة على غرار مجلات الأطفال، فكنت أشتري دفاترَ أرسم فيها حكاياتي مدعومة بقدرتي على الرسم، وأجعل الحوار بين شخصيات رسومي باللغة العامية، وذات يوم أهداني أبي بعد ولعي بمجلة (سمير) التي اتخذت من العامية المصرية لغة لحوارها، قصصاً للصغار لـ"كامل الكيلاني"، حتى أصبحت أميل أكثر بعد ذلك إلى قراءة كتب الكبار، فكنت أشتري من بسطات يوم الجمعة في حي "الصالحية"، كتباً (للمنفلوطي وجبران ومحمد عبد الحليم عبد الله ومحمود تيمور وطه حسين)، وفي أواخر الستينيات حيث اشتد حماسي لكتابة قصص قصيرة متأثراً بما قرأته لـ(زكريا تامر، وحيدر حيدر، جورج سالم، وعبد الله عبد)، كتبت أول محاولة سردية لي سنة 1970 وكانت سعادتي كبيرة عندما أرسلت قصتي الأولى إلى صحيفة "الثورة" فنشرت بعد أيام».

منمنمات على جدران دمشق

في (المنمنمات)

بيد أن العمر يمضي

جمع "حواصلي" في المنمنمات قصص البدايات التي كتبها خلال الثمانينيات ونشرها في الصحف السورية والسعودية: «كنت في ذلك الوقت أعمل في "السعودية"، وكان شوقي لبلدي يجذبني إلى ذكريات وأحداث وشخوص مدينتي "دمشق"، فرصدتها وأخرجتها من حلاوة الذاكرة ومرارتها إلى حيز الكتابة الفنية، البطل الرئيس في المنمنمات هو "دمشق"، وحياة أهلها وبيئتها.. حاولت في المنمنمات أن أصل إلى نصوص سردية لا تحلق في الفضاء، بل تمشي بتواضع على أرض الواقع جنباً إلى جنب مع اللغة المحكية التي تحمل نبض التجربة المعاشة عند الناس، وقصص المجموعة قصيرة جداً، أقصرها لا تزيد على نصف صفحة وأطولها بضع صفحات.. أنا في قصصي لا أدعي تميزاً عن قصص الآخرين من كتّاب القصة، كل ما هنالك، أنني رغبت بكل عفوية أن أعبّر من خلالها عن تجاربي ومشاهداتي الواقعية بصورة موحية، وبلغة بسيطة مجاورة للغة المحكية التي تهب نكهة الحكاية وزخمها».

الكتابة السردية

ما يشد من عزيمتي ويدعم إيماني في الكتابة القصصية إلى اليوم، هي الأمثلة المبهرة للأدباء والمفكرين الذين استمروا في الكتابة والإبداع إلى أن أنجزوا كل أعمالهم الأدبية، يشير الكاتب "حواصلي" مضيفاً: «على سبيل المثال كتاب (حصاد السنين) للمفكر الدكتور "زكي نجيب محمود"، وميخائيل نعيمة الذي خط سيرته الذاتية (سبعون)، ورصد فيها حياة زوجين في السبعين من عمرهما، وها أنا في مستهل العقد الثامن من عمري ما زلت تواقاً لكي أنشر ما كتبت، ولأتمم ما بدأت كتابته، فالجديد في مجال الكتابة السردية عندي هو أن أنشر ما لم أتمكن من نشره من أعمال وهي: (أسفار) وهي مشاهدات وانعكاسات رصدتها خلال أسفاري، ومجاميع قصصية: (السندباد يغرق)، و(وهناك في وطني جراح) و(أين تقع الجنة)، و(حجر رخام)، و(طفولة تسرب حكاياها) و(غوايات الذاكرة) والجزء الأول من سيرتي الذاتية (بيد أن العمر يمضي)، بالإضافة إلى (أيام بلا ضفاف) وهي رواية ذاتية ترصد تجربة شاب عربي في "لندن" و(أنليزة والهجرة إلى الشرق) هجرة أمي الألمانية إلى "سورية" عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية».

لغته الأدبية

الكاتب "صباح حواصلي" له لغة مميزة وأسلوب لا يشبه أحد تقول الروائية "إيمان شرباتي" وتضيف: «يشعر القارئ لأعمال الكاتب أنه يكتب بقلبه لا بقلمه، حيث تنساب لغته هادئة حانية فيها البساطة والعمق والشاعرية، وتميزه التفاصيل الدقيقة التي يرويها عن دمشق وحواريها وأبنيتها وأهلها وذكرياته التي عاشها من أماكن وعادات وطبيعة وحتى روائح الزهر والشجر، لغته خالية من التكلف والتصنع تنساب في ذهن القارئ كالماء الزلال، يصف حنينه وشوقه بعبارات تأخذك لفضاءات واسعة تشعر بعدها أنك أمام كاتب مغرم بـ"دمشق" وبـ"سورية" وطنه الذي يحن إليه ويتمنى لو يعود».

"دمشق" لم تغادره

أرى الكاتب والقاص "صباح حواصلي" متأثراً بمدينته "دمشق" ثقافياً واجتماعياً ولو من بعيد، تقول القاصّة "رواد صبحي ابراهيم" (وهي أول من كتب عن مجموعة الكاتب الأولى "المنمنمات" سنة 1990) مضيفة: «يحب الكاتب "صباح" "دمشق" القديمة ويكتب عنها بشغف وبإخلاص عميق، كما أرى جانباً آخر عنده يكمن بامتلاكه ذاكرة قوية تعود به إلى مرحلة الطفولة وعلاقته بالحي الذي نشأ فيه، وأجد أن جانب المكان والزمان في سردياته مهم جداً بالنسبة له بالرغم من الغربة الطويلة التي عاشها، فكتاباته تصل الى كل الناس بأسلوب الحكاية الواقعي السلس والجميل، إذ يشعر القارئ أنه جزءٌ من هذه الحكاية، وحقيقة لم يستطع "صباح" أن يخرج من مدينته "دمشق"، ولا نستطيع أن نخرج هذه المدينة من داخلنا، حيث إن "دمشق" جزء من ذاكرة السوريين والدمشقيين خصوصاً ومن أحلامهم وحياتهم، وهو كاتب تمكن من أن يقدم معلومات عنها عبر قصصه القصيرة باعتماده على (اللقطة)، فأينما ذهب يستطيع إلقاء الضوء على مشهد صغير ليصنع منه قصة قصيرة جميلة جداً».