أمتارٌ قليلة تفصل بين الحارات القديمة في حي "باب شرقي" الدمشقي، والطريق المُؤدي إلى بلدة "المليحة"، في الجهة المقابلة. هنا تماماً، ومنذ عام 1983، تحتل "دار الكرامة" للعجزة والمُسنين، مكانها، بوصفها المؤسسة الحكومية الوحيدة في سورية، المعنية باستقبال كبار السن مجاناً، ولهذا ربما، تختلف الحكايات فيها، عمّا يتردد في أمكنةٍ أخرى، يحظى فيها هؤلاء، بالرعاية والاهتمام، إلى جانب نُزلاء آخرين من مُهجري الحرب وفاقدي المأوى، وغيرهم من مجهولي النسب والمُشردين.

يحكي لنا "جورج سعدة" مدير الدار، عن البدايات الأولى في الستينيات، وقتها عُرِفت الدار باسم "المبرّة"، وخُصص لها بناءٌ في شارع بغداد، لكنّ ظروفاً عديدة، تطلّبت البحث عن مكانٍ آخر، ومع انتقالها إلى البناء الجديد في "باب شرقي"، اختير لها اسم "دار الكرامة". يقول سعدة في حديثٍ إلى "مدوّنة وطن": نستقبل العجزة والمُسنين مجاناً، بعضهم يدفع 3 آلاف ليرة شهرياً مقابل خدمات تُكلّف مئات الألوف، نقدم الطعام والشراب ونهتم بنظافتهم الشخصية وأدويتهم، ونُؤمّن العلاج الفيزيائي والكثير مما يحتاجه أي إنسانٍ منّا.

يُؤكد سعدة أن الاهتمام بالنزلاء متواصلٌ نهاراً وليلاً، يتألف الكادر من 152 موظفاً، وهو رقمٌ يفوق عدد المقيمين، 104 نزلاء.. ومع ذلك، تعاني الدار من نقصٍ في الكوادر. يُوضح أيضاً: لدينا 32 غرفة، لكننا لا نستخدم سوى 23 منها بسبب الحاجة إلى موظفين، نحن بحاجة إلى عاملات لخدمة النزلاء، في بعض الحالات يحتاج النزيل أكثر من موظَفَين لخدمته، عدا عن أن خدماتنا مستمرة خارج الدار إذا احتاج أحدهم طبيباً أو مشفى، لدينا سيارة إسعاف مع سائق وممرضة وعامل للمساعدة.

نزلاء في الدار

ولا تنتهي الإشكالية هنا، فالكوادر تتقاضى أجور الفئة الخامسة، حسب قوانين العمل عندنا، وهي مبالغ قليلة جداً، قياساً بحجم الخدمات التي يقدمونها للنزلاء، منها كما يشرح سعدة، اضطرارهم لحمل ورفع بعض المُسنين، الذين تزداد أوزانهم نتيجة عدم الحركة، فيكون وزن أحدهم أحياناً، ضعف وزن الخادم أو الخادمة، لذلك يُعاني الكادر من إصابات وآلام في الظهر والعضلات، كما أن احتكاكهم المباشر مع الحالات الخاصة، يتطلب عنايةً فائقة.

تستقبل الدار، حسبما تفرض قوانينها، المُسنين والعجزة، وهم غالبية المُقيمين فيها، لكن احتياج شرائح أخرى للإيواء، سببٌ لإقامة نزلاء بأعمارٍ صغيرة، منهم شباب وصبايا، وأطفال مع أمهاتهم، وآخرين تُرسلهم "محافظة دمشق" من الحدائق والشوارع، في حين أن ازدياد الأعباء، يتعلّق بالمُسنين ممن لديهم إعاقات حركية. يضيف سعدة للمدوّنة: المُسن هو الإنسان القادر على خدمة نفسه، لكن الغالبية العظمى من النزلاء ليسوا كذلك، والمشكلة أن الدار ليست مصممة للاستخدام من قبل ذوي الإعاقات الحركية، لأن نظامها في الأصل (مدرسي)!.

جولان الأبرش

أضاف المدير أعمالاً إنشائية لتخديم وتسهيل حركة المسنين من ذوي الإعاقات، لكنه لم يستطع القيام بهذا في كل الأماكن، ولا سيما المرافق الخدمية، ووفق ما يقوله، فالدار تحتاج تصميماً خاصاً لمساعدتهم، وبحاجة أيضاً للتنسيق مع جهات معنية لأن التكاليف عالية، لا تتناسب مع الأولويات بتأمين الطعام والرعاية الصحية، يقول لنا سعدة: الحمد لله ما زلنا قادرين على تغطية هذا الجانب، لكن الدار تُستهلك بمرافقها الخدمية، الحاجة للصيانة دائمة، بعض التجهيزات تُستخدم منذ 25 عاماً، لم يعد بالإمكان إصلاحها، كالغسالات والبرادات والأسرّة.

خلال السنوات العشر الأخيرة، عاشت الدار، ظروفاً صعبة، بسبب موقعها، في منطقةٍ عُرِفت بالساخنة. يستحضر سعدة حالة التوتر التي عاشها النزلاء، لأيامٍ وأشهر، ولحسن الحظ، لم يتعرض أحدٌ منهم لإصابة، لكن الأضرار طالت البناء، وما زالت آثارها موجودة، منها فجوات كبيرة في الأسقف، وشظايا في صيدلية الدار، وبطبيعة الحال، اختلفت آلية العمل كليّاً، فأقام عددٌ من العاملين في المكان لتقديم الخدمة بشكل متواصل، ولأنّ الخروج والعودة كانا خطيرين جداً.

مدير الدار جورج سعدة

يمتلك كل نزيلٍ إضبارةً خاصة، تتضمن معلوماتٍ عن تاريخ قدومه للدار، وما يتعلق بصحته ووضعه العام، تُشرف عليها "وفاء موسى عطاالله"، المسؤولة عن قسم البحث الاجتماعي في الدار، والمتطوعة أيضاً في الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية، تقول للمدوّنة: ما يحتاجه نزلاء الدار، على اختلاف ظروفهم، يشبه ما تحتاجه أي عائلة، الدار بيتٌ لهم، الاحتياجات اليومية فيها تبدأ من الطعام والشراب والأدوية، و"محافظة دمشق" تخدم في هذه النواحي، لكن بسبب الغلاء الكبير، لا نستطيع تأمين كل ما يطلبه النزلاء، أحياناً يُساعد المتبرعون في هذه الأمور.

تُضيف عطاالله: في البداية يأتي النزيل مُستغرباً ومُتوجساً، يُعاني من فقدان العائلة والبيت، هذا الشعور مؤلمٌ جداً للإنسان المسن أو صاحب الاحتياج الخاص، يشعر بأنه مُهمل وتم التخلي عنه، لذلك فالنزلاء جميعهم يحتاجون عنايةً خاصة، نحاول بالتعاون مع الجمعيات تدعيم ثقتهم بنفسهم، بعد زمنٍ تصبح الدار بيتاً لهم، يزور البعض أقرباءهم ويعودون سريعاً إلى بيتهم، ونحن العاملون أيضاً، نرتبط بالدار، وتصبح العلاقة مع النزلاء، كما لو أننا عائلة، بالتأكيد تختلف طباعهم وردات فعلهم، لذلك يصعب أن نتعامل دائماً بالطريقة والأسلوب نفسهما.

في مدخل الدار، صادفنا "نوال إبراهيم"، شابة، نزيلة منذ 13 عاماً، أُصيبت بالشلل في طفولتها، نتيجة مرضٍ وراثي، أصاب أيضاً إخوتها الأربعة وأودى بحياتهم، وبسبب الوضع المادي السيئ جداً، لم تستطع إكمال دراستها، رغم رغبتها الشديدة. خلال زيارتها لأختها، التي أقامت في الدار للأسباب الصحية والمادية نفسها، عرضت عليها إحدى المشرفات في جمعية النور والزهور للشلل الدماغي، التقدّم لنيل شهادة التعليم الأساسي، بمساعدة الجمعية، شرط أن تقيم في الدار، لسهولة التواصل مع المدرسين، ورغم معارضة أهلها، دخلت الدار بعمر 18 سنة، وخلال أعوام حصلت على الشهادتين الإعدادية والثانوية، وهي اليوم طالبة جامعية في قسم علم الاجتماع (سنة ثالثة).

تشرح إبراهيم للمدوّنة: بعد رحيل إخوتي، تبعهم أبي وأمي، ونحن لا نملك أصلاً مكاناً نقيم فيه، لذلك بقيت في الدار، وأصبحت بيتي، لن أدّعي أن المكان (خمس نجوم) كما يُقال، لكنه ليس نجمة واحدة، "يلي بيرضى بيعيش"، في كل مكان هناك سلبيات وإيجابيات، المعاملة جيدة بالعموم، أحياناً يزورونا متطوعون ويأخذوننا في رحلات أو يقدمون تبرعاتٍ للنزلاء.

تُعرِفنا "نوال إبراهيم" بصديقاتٍ يصحبنها إلى الجامعة أو السوق، منهن "دنيا. ق"، وهي زائرة قديمة للدار، بحكم إقامة والدتها "يسرى. ق" سابقاً، تحكي لنا: أمي لا تعرف عائلتها، وهي تُعاني من ميلانٍ في رجلها، عاشت في الدار إلى أن تزوجت، لكنها لم تنقطع عن زيارة أصدقائها من النزلاء، هكذا تعرفنا أنا وإخوتي على المكان منذ كنا أطفالاً، وأصبحنا أصدقاءً لعددٍ من المقيمين.

التقينا أيضاً السيدة "جولان الأبرش"، عاشت طفولتها في دار المبرة الإسلامية في حلب، وانتقلت إلى "دار الكرامة" في دمشق، حيث أمضت معظم سنوات حياتها، غادرتها حين تزوجت، وعادت إليها سريعاً. تُحدثنا: وُلدت بتشوه خلقي وشلل، في طفولتي كنت أزحف، ونتيجة سوء الاستعمال، تضررت قدمي وأجريت لها عملية بتر، عانيت أيضاً من جنفٍ شديد وميلانٍ في العمود الفقري، أهل الخير ساعدوني لإجراء عملية في مشفى تشرين العسكري، تزوجت وتركت الدار، لكنني أنجبت صبياً مصاباً بمتلازمة داون، فانفصلت عن زوجي وعدت بصحبة ابني، منذ ثلاثة أعوام.

خلال إقامتها الطويلة، تعلّمت الأبرش مجموعة من الأشغال اليدوية، كالصوف والتطريز ورش الخرز، وتُحاول بمساعدة الجمعية السورية الفكرية، تطوير أدائها، تتمنى المزيد من النشاطات في الدار، وأن يزورهم الناس للمساعدة مادياً ومعنوياً، فالأسعار مرتفعة والدار غير قادرة على تأمين كل ما يلزم، وعدد من الأدوات الكهربائية معطل، كما أنها تحتاج لإجراء جلسات نطقٍ لابنها بشكل مستمر.

يُعيد "تيسير فاخوري"، النزيل منذ 8 أعوام، الكلام ذاته، عن أن الدار والمحافظة تقدمان كل ما تستطيعان، لكن ذلك غير كافٍ للنزلاء، وحسب تعبيره "طموحاتنا أكبر من واقعنا"، يقول للمدوّنة: كنت أعمل في التجارة، لكنني تعرضت لحادثٍ أفقدني كل شيء وأصابني بالشلل". يضيف أيضاً: "ذوي الاحتياجات الخاصة، لا شيء لنا في هذه الحياة، الأمر ليس مجرد طعام وشراب وحمّام، هناك متطلبات وطموحات وأحلام، يجب أن يكون للمعاق راتب أو إعانة شهرية من الشؤون الاجتماعية أو أي جهة أخرى في الدولة، ولا سيما إذا كان وحيداً بلا أهل أو أقرباء، لا أملاك عنده ولا ميراث".

يشرح فاخوري كيف أدّى خدمته الإلزامية ودفع كل ما ترتب عليه من ضرائب والتزامات للدولة، لكنه منذ فقد قدرته على الحركة (20 عاماً)، لم يجد من يُساعده.