لدى مشاركتهما في أحد المعارض الخارجية، تفاجأت الأختان "رفاه ورباح حمد الله" بموظفة من إحدى السفارات تطلب عباءة دمشقية كثوب زفاف لابنتها، بدلاً من فستان الزفاف الأبيض، وبعد عدة أيام عادت صديقات العروس لشراء عباءة مماثلة لارتدائها في حفل زفافهن.

تعد "رفاه ورباح حمد الله" أقدم شيختا كار دمشقيتان دخلتا سوق العمل بالأزياء الشرقية، فقد ورثتا المهنة من والدهما الذي يعد من المؤسسين الأوائل لسوق "مدحت باشا"، وشيخ كار بصناعة العباءات الدمشقية التراثية، حيث قامتا بدمج النقوش والتطريزات الدمشقية بالتصاميم الأوروبية لتكون منتجاتهما محط أنظار السوريين والسياح الأجانب.

رحلة عملهما

بداية انطلاقة مشروعهما كانت من "التكية السليمانية" كونه سوقاً تراثياً وسياحياً يرتاده الأجانب، ويستقطب اهتمامهم بمعالمه الأثرية وحرفه اليدوية التراثية، فمنذ أكثر من خمسين عاماً دخلتا سوق العمل بتحدٍ كبير للعادات القديمة التي كانت تمنع النساء من النزول إلى السوق والتعامل مع الزبائن للبيع والشراء، هذا ما أكدته الحرفية "رباح" لمدونة وطن.

بعض العباءات الدمشقية المطرزة بمطرزات تراثية

وأكملت: "نشأت في بيت يزخر بالمشغولات اليدوية، فوالدي كان شيخ كار لصناعة العباءات وتعلقت بالمهنة منذ الصغر، ولصقل موهبتي تعلمت فن الخياطة والتفصيل، أما التطريز فهو حرفة الجدات وكانت معظم الفتيات الدمشقيات يتعلمن التطريز، ولا بد من وجود قطع من الكنفا والكنويشة مطرزة يدوياً وتتباهى الفتيات بإنتاج أجمل المطرزات، فقد كان التطريز موجود في كل ركن من أركان منازلنا، أما بالنسبة "للعباية الشامية" فهي ليست فقط لباساً تراثياً أدخلت إليه مظاهر عصرية، بل تعد مظهراً من مظاهر الوجاهة والعز أيضاً، ففي منطقة "الشام" جرت العادة أن ترتدي العروس "عباية" والدها فوق ثوب الزفاف كتعبير عن حماية أهلها لها، وتدل على أنها ابنة عز، ودائماً تتسابق النسوة إلى إحضار "العباية" الدمشقية بتطريزاتها الرائعة وتلبسها في أغلب المناسبات، حيث إنها تعبر عن أصالتنا وتاريخنا ناهيك بجمالها وملبسها المريح".

عراقة العباءة الدمشقية

تتميز العباءة الدمشقية بكونها شغلاً يدوياً يعتمد على الإبرة والخيط بالتطريز والشك باليد، وتلجأ الحرفية إلى الرسم على القماش لتزيين الصدر والأكمام، وهذه الرسومات يتم تصميمها يدوياً ولا بد أن تحمل بين طياتها الخصوصية الدمشقية وتجذبها تفاصيل تراثنا العريق، ودخلت الألوان المتنوعة عالم العباءات فصممت بالألوان الزاهية للفتيات، ولعمر متقدم بألوان غامقة أكثر، وكانت الأقمشة المستخدمة أقمشة دمشقية كالبروكار والأغباني والحرير والقطن والصوف والمخمل الذي يعبر عن تراثنا، وقد تكون الأرضية بالأسود والأبيض والأحمر، كما أن هذه اللمسات التراثية هي سر تميز تصاميم العباءات والثياب العصرية الممزوجة بهذه اللمسات أيضاً، وأدخلنا التطريز على "الكنويشة"، وهي عبارة عن أقمشة كلها مربعات وتعتمد على أعداد متساوية بطريقة متناظرة، حيث يتم نقل الرسومات من (الكاتلوك) للأقمشة وتطريزها بالخيط الحريري السوري، وكانت القطب مستلهمة من البيئة الشامية كالوردة الشامية والياسمينة وغيرها التي أضافت للعباءة العراقة والأصالة والعصرية بآن واحد.

قطع الكنويشة التي يتم تطريزها على الاقمشة الحريرية

ويعد اسم "حمد الله" علامة تجارية مهمة في مجال العباءات وهذا ما ساعدهما في مشروعهما، وخصوصاً أن والدهما كان بالبداية يزودهما بالعباءات التي ينتجها، واكتسبتا منه مهارات التعامل مع التجار والزبائن، وكان العمل بالبداية مختص بتطريز العباءات فقط، وبعد عدة سنوات تطور عملهما وأدخلتا إليه كل ما تحتاجه المرأة السورية من ألبسة وحقائب وأغطية للطاولات وألعاب قماشية مصنوعة يدوياً باستخدام الإبرة والخيط الحريري السوري لتكون ذات بصمة سورية بامتياز.

استقاء الفكرة

بدورها تقول أختها "رفاه حمد الله": «خلال سفري إلى "إيطاليا" و"فرنسا" لفت نظري خلال تجوالي بأسواقها أن معظم الذين يعملون بالبيع من النساء، فأعجبتني الفكرة وقررت طرحها على والدي فور عودتي إلى "دمشق"، لكن والدي رفض فكرة نزولي أنا وأختي إلى السوق كون ذلك خارجاً عن المألوف في تلك الفترة من الزمن، صحيح أن والدي شخص متدين لكنه أيضاً متفهم ومع إصراري وبدعم من صديق والدي الدكتور "يوسف سمارة"، وافق والدي على فتح مكان خاص لنا يضم مشغولات دمشقية عدة في مكان واحد، وكون والدي مختص بإنتاج العباءات اختصينا بالأزياء الشرقية.

بعض الالعاب القماشية

وتابعت "رفاه" : "من خلال اطلاعي على التصاميم والأزياء الأوروبية والصينية والهندية، حاولت إنتاج قطع تراثية بطابع عصري، دمجت الموضة الأوروبية مع الشرقية، وخصوصاً أن تصاميم العباءات الشامية تطورت مع مرور الزمن، ففي الماضي كانت تصاميمها دمشقية وتراثية واكبت مرحلة تاريخية معينة، ولكن مع التطور والاطلاع على ثقافات أخرى من خلال معارض شاركنا فيها في أوروبا والدول العربية و"تركيا"، ازداد الطلب على الأزياء الشرقية الدمشقية لجمالها وعراقتها وجودة تطريزها، وبدأت بتصميم ألبسة عملية ولكن بطابع فلكلوري وتراثي ،كما أن العباءة الشامية كانت وما زالت موجودة في زي المرأة السورية حتى العروس، فهي تحرص على أن يتضمن جهازها نموذجين من العباءات، وكذلك صارت بعض النساء يرتدينها لحضور مناسبات الزفاف والخطبة، بدلاً من فساتين السهرة، بالإضافة إلى حفلات الاستقبال والولادة التي تقيمها النساء السوريات، ودخلت أيضاً في الحفلات الفلكلورية والتراثية كزي أساسي يمثلنا، وهكذا تحولت العباءات التراثية الشامية إلى عصرية باعتمادنا على الإكسسوارات، وقد أصبحت من أكثر الألبسة التي ترغب المرأة بشرائها، حيث إن الإقبال عليها كبير جداً ومن كل الأعمار وفي كل المناسبات، بالإضافة إلى إقبال الأجانب على اقتنائها، وازداد الطلب على هذه التصاميم، وخصوصاً من السياح الذين كانوا يأتون إلى "سورية" للتمتع بأسواقها وآثارها العريقة وكثيراً ما يروقهم التراث السوري والتطريز اليدوي، إذ أصبح لدي زبائن من عدة جنسيات، وخصوصاً أنني أتحدث أربع لغات الإنكليزية والإيطالية والفرنسية وإسبانية، مما سهل علي التعامل معهم، ولكن للأسف بعد الحرب على "سورية"، قل الطلب على الأزياء الشرقية بسبب عدم قدوم السياح إلى بلدنا، وعدم المشاركة بمعارض خارجية، وبسبب ارتفاع أجر العاملات فكلما زادت خبرة العاملة ارتفع ثمن العباءة والمشغولات اليدوية، لأنه حتماً ينعكس على إتقان العمل، فالقطعة المطرزة تستهلك 25 يوماً أو أكثر من العمل وتتطلب الدقة والمهارة بآن واحد، وخصوصاً بعد دخول التطريز الآلي اتجه الزبائن لشرائها كونها أرخص ثمناً".

تعلم الحرفة

في بداية مشروعهما كانت الأختان هما من تقومان بعملية التطريز والتصميم، ومع توسع العمل ومتطلبات السوق بدأتا تعتمدان على سيدات بالحياكة والتطريز والخياطة لكن التصاميم بقيت من عملهما، ولم تقتصر مشغولاتهما على الألبسة فقط بل شملت أغطية الطاولات والوسائد والحقائب والألعاب القماشية وغيرها من حاجيات المرأة، كما أنهما نفذتا برامج لتعليم السيدات والفتيات فن التطريز والحياكة لحفظها من الاندثار وبهدف تناقلها عبر الأجيال.

وخلال وجودنا بمحلهما التقينا "أسماء الخياط “إحدى الزبائن وقد اقتنت قميصاً حريراً مطرزاً بنقوش فلكلورية وتراثية قالت: انا من محبي الأزياء الشرقية وبحثت كثيراً خلال تجوالي بين المحلات الشرقية في الحميدية والتكية السليمانية، حتى استطعت الحصول على طلبي للحصول على ألبسة فلكلورية وحقائب قماشية بطابع عصري، تعاملت معهما عدة مرات وكنت أختار التصميم والنقوش وهما يطبقان ذلك لي على القماش حسب اللون الذي أختاره، كما أن الأزياء التي تصممانها تلفت الأنظار بشكل كبير، سواء من حيث التصميم أو نوع قماشه ولونه وكل تفاصيله، بالإضافة إلى أن تعاملهما في قمة الرقي والذوق.

أجريت اللقاءات بتاريخ 4 نيسان 2022.