ما إن تطأ قدماك الريف السوري وخاصة ريف المحافظات الشرقية والشمالية، حتى ينتابك شعور غريب، شعور الانتقال من الحاضر إلى الماضي، فالأبنية الإسمنتية التي جثمت فوق أنفاسنا اختفت، والضوضاء التي صمَّت آذاننا تلاشت، والتلوث الذي أرهق أجسادنا لم يعد له وجود، ثم موجات القلق التي أغرقت مشاعرنا ووجداننا استحالت فجأة إلى إحساس بالأمن والسكينة.

هنا يمكن استعادة شريط الذاكرة، وتأمل الإبداع في بناء البيوت الطينية، تلك القلاع التي اختزنت بداخلها ذاكرة من سكنها، بيوتٌ متلاصقة ترسم للناظرين بعض معالمها بتجانس بهيج، هي لم تثقل وجه الأرض بحفرها ودق أسياخ الحديد وصب كتل الإسمنت فيها، تلك المساحات الطينية اتسعت لأصحابها وضاقت بيوت الحاضر بنا ذرعاً رغم اتساعها.

حنين للماضي

يقول المهندس "مصطفى البيراوي" لــ "مدوّنة وطن": "ولدت في بيت طيني في "ريف حلب"، وظل هذا البيت ملازماً لي في ذاكرتي طويلاً، أحن إليه كلما ابتعدت عنه فهو صديق للبيئة وبيت بيئي متكامل حيث لا يتم استخدام أي شي فيه إلا من الطبيعة".

قبة طينية

ويضيف: "من حيث التصميم الهندسي فالقبب الطينية دائرية على خلاف الأبنية الحديثة مربعة الشكل، ومن حيث المتانة فالمادة المستخدمة في البناء تحتوي على التبن والرماد بالإضافة الى الماء والتراب، وهذه الخلطة قوية ومتينة جداً ونسبة تماسك التربة مع التبن تساوي ثلاثة أضعاف نسبة تماسك الإسمنت مع الرمل، أما من حيث الديمومة فعمر البيت الإسمنتي لا يتجاوز السبعين عاماً، بينما البيت الطيني يتجاوز عمره الــ 500 عام في المعدل، إضافة لدرجة حرارته المعادلة صيفاً وشتاء".

الشواهد تحكي

هل تساءلت يوماً عن أشكال بيوت القدماء (القبب الطينية والمصطبات)، التي تعود لمئات السنين من ناحية السكن فهي دافئة في الشتاء وباردة في الصيف وتكلفة بنائها مناسبة، كان أبناء القرية يجتمعون لبناء القبب، ويقدمون المساعدة حسب إمكانياتهم وتبنى هذه القبب بخلط التراب والتبن والماء، وتبدأ من قاعدة مربعة وترتفع حوالي مترين ثم تأخذ الشكل الهرمي، لتنتهي بحجم متطاول من الأعلى يسمى "الطنطور".

قبب طينية صامدة رغم المتغييرات

تقول السيدة "صفية العمر" من "ريف حلب" الغربي لــ "مدونة وطن": "كل سنة أو سنتين تجتمع النساء ويخلطن الطين مع التبن، ويحملنه على رؤوسهن ثم يصعدن الى الأعلى، لمد القبة وإعادة ترميمها".

عن طريقة بناء هذه البيوت الطينية يقول "حسين العكلة": "لقد خلط الأجداد الطين مع التبن والقش، وبذلك كانوا أول من توصل إلى فكرة تحسين المواد بمثل تلك الإضافات".

القبب تراث من الماضي

فيما يرى المعلم "صياح السعدون" أن المحافظات الشرقية تحوي إرثاً معمارياً وحضارياً عريقاً له أبعاد اجتماعية واقتصادية وتقنية ضاربة في عمق التاريخ، وهناك شواهد تحكي عظمة الإنسان السوري وإبداع فنه وبراعته وإتقانه، وتشكل مدنه وقراه وقصوره وصروحه آيات في الجمال والإبداع وتقنية البناء التي تنسجم مع بيئته وتبقى عالية القيمة في الشكل والجوهر.

ونسأل لماذا الطين يدخل في بناء تلك البيوت؟.. يقول المهندس المعماري "ملحم ملحم" : "إن الطين أساساً ناتج عن تحلل الصخور النارية، وهو لذلك مركب من رقائق صغيرة متبلورة، ومن خواصه الطبيعية اللزوجة عند إضافة الماء إليه، أما لون الطين فيعتمد على المركبات المعدنية التي فيه، ولذا نراه يتدرج من الأبيض الفاتح إلى البني الغامق، ويبلغ وزن الطين ما بين 1400 إلى 1800 غرام في المتر المربع حسب درجة التماسك".

خصائص مهمة

نترك كيمياء الطين إلى ما هو أسهل، ونتوجه إلى المهندس "نزار خالد الحرفي" لنسأله عن الخواص التي تميز العمارة الطينية عن الإسمنتية فيقول: "عرف الإنسان مميزات الطين، فحافظ على استعماله ليس في "سورية" فقط ولكن في العديد من دول العالم، إذ أثبتت الإحصائيات أن أكثر من مليار من البشر يستعملون العمارة الطينية، لأن الجدران الطينية تعدُّ عازلاً جيداً للحرارة والبرودة، فلا تسمح بسرعة انتقالها من غرفة إلى أخرى، كما أن هناك سهولة في التعامل مع الطين أثناء البناء فيسهل تشكيله وزخرفته بما يتناسب مع الهوية المعمارية".

ويتابع المهندس "الحرفي" بالقول إن استعمال الطين في العمارة له العديد من الإيجابيات، فالطين مادة طبيعية ومتوفرة في معظم المناطق، ما جعل السكان المحليين يعتمدون على استخدامها لأن تقنياتها بسيطة وسهلة التصنيع، و لما لها من فوائد في بناء مساكن ذات مناخ صحي معتدل، باردة صيفاً ودافئة شتاء، كما أن غلاء المواد الحديثة المصنعة أدى لضرورة البحث عن مواد طبيعية رخيصة التكاليف كمواد بديلة في عملية البناء، مع الأخذ في الحسبان أن مادة الطين من أفضل المواد البيئية، فهي لا تشكل أي تلوث للبيئة أثناء التصنيع أو التنفيذ أو التعديل، فضلاً عن أن العمارة الطينية تعيد العلاقة الحميمة بين الإنسان والعمارة التي تتمثل في حجوم وأشكال وفنون وتراث نابع من الإنسان، ويتناغم مع مقياسه الإنساني الذي يتناساه غالباً أصحاب ما يسمى الطراز العالمي".

وعن سلبيات العمارة الطينية يقول "الحرفي": "يحتاج البناء بهذه المادة إلى الأيدي العاملة الخبيرة، وإلى مجهود كبير، ويمكن تجاوز ذلك باستخدام الأدوات والقوالب الخاصة بصنع اللبن، و إذا لم تتم الصيانة بشكل دائم فإن مياه الأمطار تملأ الأجزاء الحاوية على اللبن والهيكل مما يؤدي لانفصالها عن بعضها البعض، كما أنه في عمليات الإنشاء الهيكلي المكثف، فإن الأوزان الكبيرة الناتجة عن عناصر البناء من جدران وأسقف بسبب سماكتها تؤدي لهبوطات وخاصة في الفصل الماطر مما يؤدي إلى التشقق والانهيار أحياناً".

أخيراً

القبب الطينية تهدمت بعد تطور البناء ولم يبقَ منها إلا نسبة قليلة يقطنها بعض كبار السن، ممن تمسكوا بتراثهم الجميل، والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن المحافظة على هذه القبب؟.