كما مدن العالم كلها.. أخذ التّطور العمراني مأخذه من مدينة "دمشق"، إلا أن طيف عمارة البيت الدّمشقي وإبداع المهندس الدّمشقي بقي له ذلك البريق المتجذر، والمستحوذ على الإعحاب، ما شكل دافعاً لدى كثير من المهتمين بهذا الإرث المعماري لتجديده وإعادة إحيائه والإبقاء على وجوده حاضراً بيننا.

رحلة عشق

كان لرحلة "سومر هزيم" إلى مدرسة "الآسية" في "دمشق" القديمة"، الدّور الكبير في رسم العلاقة القوية بينه وبين الحارات الدّمشقيّة القديمة بما فيها من بيوت ومقاهٍ شعبية، وأخذت هذه العلاقة بُعداً ذا مساحة أكبر حسب ما تحدث به "هزيم" لمدوّنة وطن eSyria حيث يقول: «كان لمروري اليومي بهذه الحارات القديمة، واستراق النّظر عبر أبواب المنازل المفتوحة بما لها من فسحة سماوية، وبحرة تتوسط أرض ديارها، الأثر الكبير في زيادة حبي لها، وباتت علاقتي مع هذه التّكوينات التي عبقت بها كل الحارات والأزقة، تتجسد بحلمي في امتلاك واحد من هذه المنازل، وأخذ هذا الحلم مأخذه مني مع مرور السّنين، وكنت قد اجتهدت بالتعرف على عناصر العمارة الدّمشقيّة من الليوان والأقواس والزّخارف وغيرها، وبدأت بدراسة تاريخ هذه البيوت وعراقتها وأسماء أصحابها... إلى أن استقر بي المطاف بشراء هذا المنزل الذي تحول اليوم كما ترونه إلى مقهى "القشلة"، والتي كانت ملكيته الأولى تقريباً عام 1870م لعائلة "الزيات" ومن ثم عائلة "الخليل" التي استثمرته بتأجيره لعائلات قادمة من الأرياف إلى دمشق في بدايات القرن العشرين».

في البداية فكرنا بتحويل المنزل إلى فندق تراثي لاستقبال السياح والأجانب القاصدين لمدينة "دمشق" وحاراتها القديمة ومنها "القيمرية" طبعاً، لكن الأحداث أوقفت كل الأعمال والمخططات، إلى أن وضعت الحرب أوزارها وعاد الاستقرار إلى ربوع البلاد فعدنا للعمل بالترميم عام 2020م مع تغير في المخطط ليوظّف المنزل كمقهىً شعبي

تاريخ وحاضر

يتابع "هزيم": «شغل البيت مكاناً في الحارة الواقعة بالقسم الجنوبي الشرقي من "دمشق القديمة" وتدعى "حارة اليهود" كونها كانت مركزاً للسكان الدّمشقيين المعتنقين للديانة اليهودية، وشاركهم بها جيران من أديان وطوائف أخرى، ومن كل المناطق السورية، فكانت مثالاً على التّسامح والتّعايش الذي عُرفت بها "سورية" منذ القدم.

سومر وأخوه المهندس أنمار هزيم

وبحكم عمل العائلة المتعلق بهندسة العمارة، كانت فكرة ترميم البيت بعد امتلاكه حاضرة دائماً، وأخذ العمل بها الحصة الأوفر من حيث التّدقيق بالتعرف على عناصر البيوت الدمشقية، وكيفية توظيف كل عنصر وترميمه بالطريقة المطابقة للأصل دون أن تشكل أي غرابة بصريّة تؤدي إلى تشويهات معمارية».

ويضيف: «في البداية فكرنا بتحويل المنزل إلى فندق تراثي لاستقبال السياح والأجانب القاصدين لمدينة "دمشق" وحاراتها القديمة ومنها "القيمرية" طبعاً، لكن الأحداث أوقفت كل الأعمال والمخططات، إلى أن وضعت الحرب أوزارها وعاد الاستقرار إلى ربوع البلاد فعدنا للعمل بالترميم عام 2020م مع تغير في المخطط ليوظّف المنزل كمقهىً شعبي».

صالة العرض

ترميم بأصول

مهندسة الديكور ريتا الخوري

بدأت عملية التّرميم بعد إزالة مخالفات العائلات السّبع التي سكنت المنزل، والتي أقامتها للتناسب وحاجتهم من غرف ومرافق خدمية، وبذلك جرى العمل على مراحل عدة وضّحها المهندس "أنمار هزيم" حيث قال: «ألغت المخالفات المعالم الأساسيّة للبيت العربي، فعدنا إلى مراجع ومخططات الوصف القديم مثل (المخطط الكادسترائي) المُوثّق لكثير من الأمور الأساسية المتعلقة بالبيوت العربية، واستفدنا كذلك من كتاب "Hidden treasure of old Damascus" (كنز مخفي في دمشق القديمة) للكاتبة الإنكليزية بريجيت كينان، وبعد إزالة المخالفات كشفنا عن المدخل والدّهليز وأرض الديار، وأعدنا الليوان والقوس وأغلب تكوينات المنزل العربي بالمواصفات القديمة نفسها بنسبة 99%، ومن ثم بدأنا بعملية التّرميم مبتدئين بالأجزاء الجيدة التي حافظت على وجودها، فقمنا بتنظيفها وأظهرناها بطريقة جميلة، أما الأجزاء المتضررة فأحضرنا لها حجراً يشبه قديمها وأعدنا تجهيزها من جديد كالمندلون الذي يعلو الأبواب، وحرصنا على استخدام المواد التقليديّة التي كان معمولاً بها قديماً، فأعدنا البحرة إلى موقعها وبالحجر القديم نفسه، وكذلك الأرضيات بحثنا لها عن البلاط الذي عرفناه برسماته التّقليدية التي زينت بيوت "دمشق"، ولم نغفل عن التّمديدات الخارجية للكهرباء ذات الطابع القديم، أما بالنسبة للديكورات الخشبية كذلك طابقناها مع الموديلات القديمة فالكورنيشة مثلاً أخذنا فكرتها من مدرسة الرّاهبات "البيزنسون"، وفيما بعد أضفنا اللمسات الحديثة مثل الإضاءة والبوفيه، دون أن ندنو من هيكلية البيت الإنشائيّة وهي عناصر قابلة للإزالة بأي وقت، فأصبحت القهوة بذلك تشمل الصالة الرئيسيّة والليوان وغرف الانتظار بالإضافة إلى صالة عرض، وطبعاً البوفيه والخدمات».

للفن زاويته

لم يأخذ البيت زاوية واحدة كونه أصبح مقهى دمشقياً، بل أعطى لستة عشر فناناً من الفنانين السوريين الأكاديميين والهواة، مساحة فنية تحدثت عنها مهندسة الديكور "ريتا الخوري" وقد حجزت موقعاً لحلمها حينما جعلت من القاعة الكبرى في البيت صالة عرض لأعمالها وأعمال زملائها الفنانين، وإبداعات أناملهم من لوحات وتكوينات فنية وأشغال يدوية تهتم بها وتدير عملية تنظيمها كونها شاركت في أعمال التّرميم مع الفريق بما يخصها من ألوان وفرش، ويمكننا تلمس بصماتها فور عبور الزّقاق المؤدي للقهوة وملاقاتنا باب القهوة باللون الأخضر الذي اعتمدته مع الفريق وأخذته مما اعتاد استخدامه عدد من الدّمشقيين بتدرجاته مع الأزرق، وكذلك العاجي والأبيض الكريمي.

وبعد عبورنا هذا الباب إلى الداخل نرى اهتمام المهندسة "ريتا" كما فريق العمل كله في تثبيت الهوية التّراثيّة للبيت من خلال الأثاث القديم الذي تمّ انتقاؤه مع قماش فرشه وألوانه حيث وقع الخيار على قماشة الكوبلان.

مثّلت قهوة القشلة ومنذ افتتاحها قبل عام ونيف حالة جديدة ومختلفة للحارة، وأعطت فرصة كبيرة لروادها من الشّباب في قضاء أوقات جميلة وبأجواء دمشقية.