لا تقتصر أوجه التجارة والاقتصاد على ما تنتجه المدن الصناعية من صناعات، فهناك أنشطة تجارية واقتصادية أخرى يجهلها العديد تشكل عائداً جيداً في الاقتصاد السوري، وربما يستغرب البعض، إذا علم أن تجارة الزهور (الوردة الشامية) في "سورية" عامة وفي قرية (المراح) بالقلمون تعد جزءاً مهماً من هذه الصادرات، والتي نمت بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، واتسعت ليتم تصديرها إلى أوروبا، منافسة بذلك مثيلاتها في باقي الدول.
عاصمة الوردة الشامية
على بعد 80 كيلومتراً من دمشق، وتحديداً في القلمون الشرقي من محافظة ريف دمشق، تقع عيناك على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الأكثر شهرة بزراعة الوردة الشامية، وتشكل 50% من إنتاج "سورية" السنوي، حيث تعد قرية "المراح" أو "قلدون" كما يحلو للبعض تسميتها، من البيئات الخصبة لزراعة الزهور، وتميزت بذلك على مدى سنوات طوال، لتصل بهذا المنتج الطبيعي إلى أسواق أوروبا، وآسيا، ودول الخليج، بواقع إنتاج سنوي يصل إلى الملايين من الورود الشامية.
يقول "منصور عباس" أحد أبناء قرية" المراح" في حديثه لــ "مدونة وطن": "عملنا الأساسي هو زراعة الوردة الشامية وأغلب دخلنا منها إذ نقضي جلّ وقتنا بالعناية بهذه الوردة "المعشوقة"، واقتصاد القرية يعتمد على إنتاج الورد وما ينتج من ماء الورد الذي يصل إلى كل مكان في" سورية" حتى خارجها فضلاً عن طقوس جمع الورد التي يجذب الكثير من السياح".
ويضيف "عباس": "تعيش الوردة الشامية في مناخ معتدل جاف نسبياً، وهو طقس يحدد قوة رائحة الورد وجودة عصيرها، فأي اختلال في حرارة الطقس يفقد الورد الجوري كل ميزاته".
ويطالب "عباس" بالاهتمام بالبحث العلمي الخاص بالوردة الشامية، وإنشاء وحدة إرشادية في البلدة ورفدها بالفنيين وذوي الاختصاص لحل المشاكل التي تواجه الفلاحين وخاصة الإصابات الحشرية والفطرية، والقيام بالمكافحة المتكاملة للحقول، وإنشاء مشتل لإنتاج غراس الوردة في أراضي البلدة، والاهتمام بتسويق المنتج وحماية الفلاحين من بطش التجار، واعتماد قرارات مناسبة لفلاحة الحقول وبأسعار مدعومة، ورفع سقف قروض المصرف الزراعي تماشياً مع ارتفاع تكاليف الإنتاج.
ماء الورد
بين صفوف ممتدة من شجيرات الورد البلدي يسير الفلاح التعاوني "أمين بيطار" 86 عاماً، رئيس جمعية الوردة الشامية في بلدة "المراح" بلباسه العربي "الكلابية"، يدقق النظر في أوراق الورود ثم أعوادها، يتفحصها بحرص شديد ثم يخبر أحدهم بالعلاج المطلوب.
يشير "بيطار" متحدثاً لــ "مدوّنة وطن"، إلى أن أبرز الصعوبات التي تواجه الوردة الشامية في البلدة العطش الذي يهددها، مقترحاً حفر بئر ثانية في المنطقة كثيفة الإنتاج وإقامة خزان لتوزيع المياه بالأنابيب لري المحصول والعمل على تمديد شبكة للري الحديث ضمن الحقول الزراعية، بالإضافة إلى تأمين صهريجين لنقل المياه بقصد سقاية غراس الوردة الشامية.
ويوضح رئيس جمعية الوردة الشامية بأن معظم المحال في القرية تنتج ماء الورد الشامي وتبيعه. فكل من يزور المراح يبتاع ماء وردها الذي يستخرج بطريقة تقليدية تعود إلى سنوات خلت.
ويضيف: "عندما يُغلى الورد يصعد البخار عبر أنابيب موصولة بوعاء كبير موضوع في حوض ماء بارد، وعندما يصطدم البخار بجو الوعاء البارد يتقطر ماء الورد الصافي وهذه أفضل طريقة لاستخراج أجود أنواع ماء الورد .
وعن إنتاج القرية يقول: "يعتمد إنتاجنا على كمية الورد ونحتاج من 18 إلى 30 كغ للحصول على بضع ليترات من ماء الورد يصب الماء عليه ويقطر على حرارة عالية" .
ويلفت إلى أنّ الإنتاج يختلف من عام إلى آخر، إذ إن الأمطار تلعب دوراً كبيراً في كمية الإنتاج، ففي الموسم الجيد يصل إنتاج البلدة من الوردة الشامية إلى 50-60 طناً، وتوقع أن يتراجع الإنتاج هذا العام نظراً للظروف الجويّة السائدة حيث قلّة الأمطار.
قرية ترتدي الورد
طوال فصل الربيع تلبس بلدة "المراح" ثوبها الجوري، وقبل شروق الشمس يتوجه أهالي البلدة إلى سفوح الجبال والهضاب لقطف ما يعرف هناك بالورد الشامي، تقليد توارثه أهالي البلدة منذ عشرات السنين، يجذب السوريين من مختلف أنحاء البلاد .
"عائشة المحمود" حالها كحال أي مزارع يقطن هناك في "المراح" تخرج مع خيوط الشمس لتحيي طقساً ربيعياً ميز البلدة عن غيرها من قرى "القلمون" منذ عشرات السنين، تجمع "عائشة" أكبر عدد ممكن من الورود المتفتحة، وما تبقى يترك لصباح آخر لتجمع بعدها قطرات ماء الورد بأسلوب تقليدي وأدوات لم يستغنَ عنها أجداد هؤلاء .
تقول "عائشة"، وهي واحدة من عاملات كثر بقطاف الورد: "كل يوم من أيام قطاف الوردة الشامية نعيش لحظات رائعة. فرائحة الورد الشامي تبث السعادة في أنفسنا."
بدوره، يقول المزارع "حسين فارس": إن هذه الزراعة غير التقليدية مجدية اقتصادياً حيث إن إنتاجها كثيف والطلب عليها كبير في الأسواق المحلية. وننصح المستثمرين بطرق هذا الباب من أوسع أبوابه لتوفير احتياجات السوق، مؤكداً في الوقت ذاته على ضرورة التفات الجهات المعنية إلى مزارعي الورود ومساندتهم".
رعاية واهتمام رسمي
تغلبت قرية" المراح" على الظروف المناخية والطبيعية، ونقص الخبرات العاملة الفنية في زراعة الوردة الشامية، فبدأت إنتاجها الفعلي للوردة من خلال مزارع شاسعة جذبت الكثير من المستثمرين لها.
يقول المهندس "أيمن طباني" رئيس مكتب التخطيط والتعاون الدولي في دائرة زراعة "النبك": إن إجمالي المساحة المزروعة بالوردة الشامية في منطقة القلمون (النبك) يصل إلى 2800 دونم مزروعة في بلدة "المراح" و100 دونم في قرية "القسطل".
ويشير في حديثه لــ "مدوّنة وطن"، إلى أنه في إطار الاهتمام البالغ بزراعة الوردة الشامية قامت مديرية الزراعة قبل الحرب التي تعيشها البلاد بالاستصلاح المجاني لما يقارب من 5431 دونماً في مناطق "القلمون" و"المراح" و"القسطل" لافتاً إلى أنه أعيد استصلاح 2000 دونمٍ في "المراح" وتقديم 4500 شتلة من قبل مديرية زراعة "ريف دمشق" وتشجير 450 دونماً من الشتول المقدمة، وإعادة تجهيز بئر الري وفرز صهريجين لنقل المياه لتقديم الري اللازم للمساحات المزروعة بالوردة الشامية .
ويلفت "طباني" إلى أنّ هناك دراسة بناء على توجيهات رئاسة مجلس الوزراء لإنشاء وحدة زراعية لتقطير واستخلاص زيت الورد، وهذه الوحدة إذا كتب لها النجاح فسوف ينعكس ذلك إيجاباً على المساحات المزروعة وتطويرها كونها ستعمل على استقطاب وتصريف المنتج من هذه الوردة .