لا تزال دواليب الهواء تنتشر بكثرة في منطقة "القلمون" وتعود بتاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي، تحكي قصة تطويع الإنسان للطبيعة والاستفادة القصوى من مكنوناتها قبل عقود من الزمن، حين كانت مصطلحات كالطاقة المتجددة والبديلة مجرد ترف، على عكس ما هو سائد في وقتنا الحالي.

إرثٌ قديمٌ

الزائر لمنطقة "القلمون" يمكنه رؤية دواليب الهواء، فالكثير منها لا يزال صامداً حتى اليوم، يتذكر مختار "دير عطية" "غسان العجلوني" 1937 في حديثه لــ"مدوّنة وطن"، كيف لعب دولاب الهواء دوراً إيجابياً في إنعاش الزراعة وتوفير مياه الشرب للأهالي في زمن كانت لا تتوفر فيه محركات الديزل ولا الكهرباء.

ويقول: "الأجانب الذين قدموا إلى المنطقة كانوا سبباً في وجود دولاب الهواء، مشكلين بعملهم وجهودهم جمعية تعنى بدواليب الهواء، لقد فتحوا من خلال ذلك أعين العديد من الناس على كيفية استثمار الرياح والاستفادة منها في استخراج المياه".

إرثٌ قديم

وعلى حد تعبير "العجلوني" فقد تركت جهود هؤلاء الرجال انطباعاً كبيراً في ذلك الوقت، فمن كل جانب قدم الأهالي المساعدة حتى يتمكن المجتمع مع مرور الوقت من إظهار الاستفادة من دولاب الهواء الذي تطورت صناعته، وجندت كل الجهود للحفاظ عليه كإرث حضاري قديم.

شيخُ الكار

خلال تجوالك في "القلمون"، سترى دواليب الهواء وهي بأشكال واستخدامات مختلفة، يقول "وليد خالد النفوري" لــ"مدوّنة وطن": "في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي قام المرحوم والدي "خالد عبد المحسن النفوري" الملقب "أبو وهيب" من أهالي مدينة "النبك"، بتصنيع دولاب هواء يعمل بطاقة الرياح لضخ المياه من الآبار آنذاك، وقد واجه صعوبات في تصنيع المروحة، فعمل البرج من اللبن والطين والمروحة من الخشب والقماش، وكان ذلك في بيته، وقد عانى كثيراً جراء التجارب التي قام بها، وخاصة في تصنيع المضخة وبشكل بدائي إلى أن توصل إلى النتائج المرجوة، ومع الوقت تطورت تلك الصناعة إلى أن تم تركيب دولاب هواء في مشفى القلمون (الدنماركي سابقاً)، وقد جاء "الدنماركيون" بمروحة من بلادهم وتم تركيبها في المشفى، وبعد توفر المواد الأولية بدأ بتصنيع المراوح التجارية لتكون هي الأولى في ضخ الماء في ذلك العصر على مستوى "سورية" والمنطقة.

باقٍ رغم التطور

ويضيف: "قام أبناء المرحوم (وهيب - وليد) بالعمل معه وعملوا على تطوير تلك الصناعة، حيث أصبحت بعدة مقاسات تتناسب وظروف سرعة الرياح وعمق الآبار، كما تم إجراء بعض التعديلات بقصد سحب المياه من الأعماق حتى عمق مئة وخمسين متراً، وقد انتشرت هذه الصناعة في جميع المحافظات السورية، وتم تصدير عدد لا بأس به الى الدول الأخرى مثل "الأردن والعراق والسعودية ولبنان وإيران"، وعلى هامش هذه الصناعة تم تصنيع عنفات ريحية لتوليد الكهرباء بعدة مقاسات، وتم تركيب واحدة باستطاعة ستين ك واط في محافظة "اللاذقية" وبعدها توقف العمل بتلك الصناعة بسبب الأحداث التي شهدتها "سورية".

أوّل ترخيصٍ صناعيّ

بدوره يوضح "محمد سمير حافظ" من أهالي "النبك"، كيف تم تطوير صناعة دولاب الهواء لإنتاج الطاقة الكهربائية واستخراج الماء من أعماق كبيرة وبتكلفة أقل ودون مضخة كما هو معروف، مشيراً إلى أنه تم تركيب دواليب الهواء في "دير عطية" وغيرها من المناطق، منذ ما يقارب الــ70 عاماً، وبعدها بثلاثين سنة تم تقليدها وتصنيعها في "دير عطية" بواسطة "سعيد ملحم".

شريكٌ في النهضة الزراعية

ويلفت "الحافظ" إلى أنه تم ترخيص منشأة "خالد النفوري" عام 1970 لصناعة دواليب الهواء من قبل وزارة الصناعة، وهو الترخيص الوحيد الذي يحمل هذا الاسم وتم اعطاؤه رقم (1) واحد ولا يوجد ترخيص ثانٍ في الوزارة يحمل تلك الصناعة.

صناعةٌ محلية

دولاب الهواء في "دير عطية" حكاية تروى، يقول مدير مكتب الخدمات في مجلس مدينة "دير عطية" محمود حسن لــ"مدوّنة وطن": "أنشىء أول دولاب هواء لطحن الحبوب على "رابية القسيس"، وقد عُدّ دولاب الهواء رمزاً لهذه المدينة لأنه صنع فيها بكثرة، واستخدم لاستخراج الماء وذلك لتوفر الرياح القوية، وأصبحت دواليب الهواء مهنة تقليدية وشكلاً تزيينياً، ومن أجل الحفاظ على هذه الدواليب التي تتميز بها "دير عطية" جرى شراء عدد منها ووضعت في أماكن متفرقة من المدينة تخليداً لأول صناعة محلية في "القلمون" وما زالت.

رمزٌ للتطوّر

لقد اتخذت "دير عطية" من دولاب الهواء رمزاً لنهضتها، ليمثل ارتفاعه في الهواء برهاناً على الدورة الطبيعية لعجلة الحضارة، فها هو الشاعر المرحوم "عبد الباقي عبد الباقي" ابن "دير عطية" يخلّدُ دولاب الهواء عندما كتب فيه عدداً من القصائد، وعنه وعما مثله في مسيرة النهضة والحضارة والتقدم في "دير عطية" يقول في قصيدة (بلد النشامى):

ودولاب الهواء بها شعار

يمثل نهضة علت الغماما

وبلسان "دير عطية" يخاطب دولاب الهواء طالباً منه أن يتفاخر بهذه الحضارة التي هو شعارها قائلاً:

تطاول أيهّا الدولاب واشمخ

برأسك في العلا فوق الغيوم

حديثُ الذكريات

يقول "محمد خير السوسو" أحد المهتمين بتوثيق تراث دير عطية لــ مدونة وطن: "دولاب الهواء، استخدم قديماً لاستخراج المياه من الآبار للاستعمال المنزلي والسقاية، ويعمل على قوة الرياح ، وانتشاره في "القلمون" جاء مع الحملة التبشيرية "الروسية" في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها جاءت الدواليب مع المغتربين من "الأرجنتين" وذلك قبل البدء ببناء المشفى الدنماركي، وكان ممن يعملون بصناعتها وصيانتها "عثمان الكردي" وابنه "محمود" الذي تعلم المهنة من أرمني في مدينة "يبرود".

ويضيف: "في الثلاثينيات من القرن الماضي كان المرحوم "خالد النفوري أبو وهيب"، يحاول إخراج المياه من بئره الموجود في بيته، وقد عمل على تصنيع مروحة وسقالة من اللبن والمروحة قام بتصنيعها من القماش والخشب وتعمل على طاقة الهواء، وبعد فترة من الزمن تم تركيب أول دولاب هوائي في مشفى القلمون (الدنماركي سابقاً) وكان صناعة أجنبية، فبدأ المرحوم "خالد" بتصنيع الدولاب الهوائي على مبدأ هذا الدولاب بعد توفر المواد الأولية لتصنيعه، وعمل على تطوير صناعته مع مرور الزمن فكان الوحيد هو وأولاده ممن أتقنوا تصنيع الدولاب الهوائي وتطويره واستغلال طاقة الهواء المتوافرة في القلمون لإخراج المياه من الآبار".