: مع انخفاض درجات الحرارة بمعدلات عالية في مدن وبلدات القلمون الغربي وخاصة تلك القريبة من الحدود "السورية"–"اللبنانية"، يزداد الإقبال على ما بات يطلق عليه بين الأوساط الاجتماعية هناك "عسل الفقراء" والمعروف محلياً باسم (الدبس) إذ إنه يشكّل بنظر الأغلبية طعام الشتاء بسبب ميزاته الغذائية المهمة لجسم الإنسان، فضلاً عن أن صناعته البدائية تضيف طعماً ومذاقاً خاصاً لهذا المنتج الذي كان ولا يزال واحداً من أهم الأطعمة التي تتناولها العائلات الغنية والفقيرة على حد سواء في القلمون وخصوصاً خلال فصل الشتاء، وعلى الرغم من وجود معامل حديثة لصنع الدبس، إلا أن الكثير من الناس في القلمون ما زالوا يفضلون الدبس المصنّع يدوياً وذلك لجودته العالية.

عالي الجودة

تقول السيدة "ريما بشبش" نائب رئيس الجمعية الفلاحية في مدينة "دير عطية" وهي أول امرأة تتسلم هكذا منصب في "سورية"، بعد جولة لها على معاصر الدبس في المنطقة: "صناعة الدبس في القلمون عامة وفي دير عطية على وجه الخصوص، تعد من الصناعات القديمة جداً وتمتد إلى سنوات خلت وهي تجري لحد الآن بطابعها البدائي اعتماداً على الأدوات البسيطة وأشعة الشمس التي تتوافر في المنطقة".

وتضيف "بشبش" في حديثها لــ "مدوّنة وطن": "دبس "دير عطية" يمتاز بجودته العالية ولونه القريب جداً من العسل، لذا يسمى بعسل "دير عطية" في بعض الأحيان، وسعره مناسب خاصة للفقراء وهم زبائنه الدائمون" على حد تعبيرها.

دبس بشهده

وتؤكد" بشبش" أنّ الدبس في "دير عطية" لا يقل جودة عن ذلك المصنع في "يبرود والنبك" فكلاهما يصنعان بالطريقة نفسها مع بعض الإضافات الناجمة عن تراكمات الخبرة والعمل لسنين طويلة من ناحية شدة النار ونظافة زبيب العنب ومدى بقائه تحت أشعة الشمس.

وتتابع: "أنامل النساء هي من تصنع عسل الفقراء لأنه يحتاج إلى تعب وجهد" وقد كان وما يزال في المدن والقرى، عسل الفقراء بسبب أسعاره المناسبة ناهيك عن قيمته الغذائية العالية".

عمليشة طبخ الدبس

معصرةُ "البليلة"

تواغير لنقع الزبيب

يبدأ موسم عصير الدبس مع انتهاء قطاف العنب واقتراب فصل الشتاء، حيث يجتمع المزارعون لعصر مواسمهم، وكثيراً ما كانت تقام حلقات الدبكة مترافقة مع العزف على الربابة أو المجوز، وعندما يحل التعب بالجميع تبدأ طقوس تناول الدبس الممزوج بالطحينة مع خبز التنور المشروح.

وتعدُّ المعصرة المعروفة باسم (أبو غازي البليلة) لصاحبها المرحوم "محمد عبدو" التي (ورثها عن أبيه الذي بناها قبل 80 عاماً) ويديرها اليوم أبناؤه "يوسف ويسار عبدو" بكل حنكة واقتدار، تعدُّ من أهم معاصر الدبس في المنطقة إلى جانب شكلها وأدواتها وسقفها المرفوع عبر القناطر الحجرية، لتكون شاهدة على تراث الأجداد العريق الذين قدموا الكثير لهذه المدينة.

فالرجلان "يوسف ويسار" يسهران اليوم على صيانة المعصرة التي أجريت عليها بعض التعديلات من خلال ترميمها، وهي التي تنتج في السنة وسطياً 45 طن دبس عنب حصراً حسب الأخوين عبدو ، وعندما تدخل معصرة "البليلة"، تستقبلك رائحة الماضي العريق بكل تفاصيله الرقيقة والدقيقة وكأنك في متحف، فهي الشاهدة على الألفة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء البلدة وأهالي البلدات المجاورة.

تحضيرُ المنتج

يقول "يوسف عبدو" الذي يشغل منصب مختار الحي الجنوبي في "دير عطية" وهو (الابن الأكبر لصاحب المعصرة) لــ"مدوّنة وطن": "الطريقة التي يستخرج بها الدبس من الزبيب، متعبة وتحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت، ولكن نوعية المنتج المتميزة هي التي تجعل العاملين في هذا المجال يواصلون عملهم.

ويضيف بأن عملية تصنيع "دبس العنب" تبدأ بقطاف ثمار العنب في نصف شهر أيلول، والخطوة الأولى في المعصرة تكون بعصر العنب ثم تجفيفه ونقله الى خزانات خاصة، ويترك عصير العنب مدة 12 ساعة حتى ترقد الشوائب في قعر الخزانات، ثم يتم نقل العصير المصفى إلى وعاء كبير يطلق عليه (حلة) كبيرة ليتم تكثيفه، عبر تبخير المياه منه لتبقى المواد الصلبة، ويطبخ العصير على النار بدرجة حرارة يمكن أن تصل إلى 100 درجة مئوية.

ويشير إلى أن كل أنواع العنب يمكن استخدامها في تصنيع دبس العنب "إلا أن العنب الأبيض هو الأفضل… وهذا موجود بكثرة في منطقة القلمون".

ويرى "عبدو" أنّ صناعة دبس العنب صناعة بيئية طبيعية مئة بالمئة، ولا تدخلها أي مركبات كيميائية، وهي تصلح لغذاء الأطفال والكبار ولكل أفراد الأسرة.

تراجعُ صناعةِ الدبس

وأثناء تجوالنا في حنايا المعصرة التراثية أطلعنا "يسار عبدو" (ابن صاحب المعصرة المرحوم محمد عبدو) على أدوات المعصرة متحدثاً لــ"مدوّنة وطن"، عن كيفية صنع الدبس فالمعصرة أهلية بكل معنى الكلمة كانت في خدمة مزارعي حقول العنب في منطقة القلمون والقرى المجاورة الذين يرغبون في تحويل إنتاجهم من العنب الجاف الى الدبس مقابل أجرة رمزية.

ويشير إلى أنّ كل 100 كيلو غرام من الزبيب تنتج ما بين 55 – 70 كغ من الدبس، لافتاً إلى أن نوع الزبيب يلعب دوراً في كمية الإنتاج، لافتاً إلى أن هذه الصناعة في تراجع بسبب عدم توافر الوقود واليد العاملة والمادة الأولية التي تستجر اليوم من محافظة "السويداء".

موائد عامرة

إلى ذلك، يبين الباحث "نور الدين عقيل" من أهالي مدينة "يبرود" لــ"مدوّنة وطن"، أنه وفي مثل هذه الأيام الباردة من أيام فصل الشتاء القارس وفي منطقة القلمون، كانت أطباق الدبس لا تفارق موائد الطعام، سواء عند الفطور أو الغداء أو العشاء للأسرة القلمونية، لطيب مذاقه وفوائده المتعددة ومحاربته برد الشتاء القارس.

ويشير أنه في النصف الأول من القرن العشرين كانت هناك في "يبرود" سبع معاصر لصناعة دبس زبيب العنب تكاد تكفي حاجة المنطقة من هذه المادة، إضافة إلى أنّ "صناعة الدبس من التقاليد التي ما تزال قائمة لدى الكثير من العائلات في القلمون حتى الآن"، مبيناً أن "هذه الصناعة لا تختلف من منطقة إلى أخرى، لكن تضاف إليها ميزات الخبرة وهو يصنع في البيوت ويقدم كهدايا أو يباع جزء منه للأسواق وبكميات ليست كبيرة بسبب غرق الأسواق بالدبس المستورد".

فيما رأت خبيرة التغذية "عائشة عاصي" في حديثها لــ"مدوّنة وطن"، أنّ دبس العنب يمتلك قيمة غذائية عالية بفضل محتواه من الحديد والبوتاسيوم، وغيرها من الفيتامينات ومضادات الأكسدة والعناصر الغذائية الأخرى، لذا فإن إدراجه في النظام الغذائي سيقدم لأفراد الأسرة فوائد متعددة مثل: تقوية العظام والأسنان، وتنظيم حركة الأمعاء، وخفض ضغط الدم، والوقاية من فقر الدم، وتقليل فرص الإصابة بالقلق والاكتئاب، وتخفيف أعراض ما قبل الحيض.

من جانبها تبين خبيرة التغذية "شروق زرزور" أنّ تناول دبس العنب بكثرة قد تكون له آثار جانبية منها، ارتفاع مستوى السكر في الدم، زيادة الوزن، مشكلات الجهاز الهضمي، لذا ينصح بتناول دبس العنب باعتدال في العموم، خاصة في حالات الإصابة بالسكري أو مشكلات الجهاز الهضمي.