يحيي الأهالي في معظم قرى ريف الساحل السوري خلال الفترة الممتدة من 1 حتى 13 كانون الثاني، طقوساً وعادات تراثية ورثوها جيلاً عن جيل، تعبيراً عن احتفالهم ببدء عام زراعي جديد، ويعود تاريخ إحياء هذه الطقوس إلى آلاف السنين الماضية، وعلى الرغم من أن إحياءها ارتبط بحضارات متعددة إلا أن السوريين تميّزوا عن بقية الشعوب بالحفاظ عليها حتى الوقت الحالي.

من الأساطير

تحتفل معظم العائلات في ريف الساحل خاصةً ريف "بانياس" و"القدموس" و"جبلة"، بإحياء ما يسمى (الميليدي) الموافق لـ 13 كانون الثاني من كل عام، والمعروف عنها في تلك المناطق أنها عادات وتقاليد توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد خلال فترة عيد ميلاد السيد المسيح، لكنّ التاريخ الحقيقي للاحتفال يعود إلى زمن الأساطير البعيدة، والحقيقة لم تُخلق أمة أو حضارة إلا وكانت لها طقوسها الخاصة بإحياء المناسبة من الآرامية إلى الكلدانية والأكادية والسومرية والبابلية وأوغاريت والهند والصين وأوروبا وعند الفراعنة المصريين وغير ذلك من الحضارات.

كنا صغاراً نجلس في هذا اليوم للاستماع إلى حكايا جداتنا عن عيد (الميليدي)، مع إصرارهن على إشراكنا بالعمل وتحضير العجين وإيقاد التنور، حينئذٍ لم نفهم المغزى والدرس، لكن عندما كبرنا أدركنا أهمية نقل هذه العادات لأبنائنا

ولم تتبدل طقوس إحياء المناسبة لدى هذه الحضارات إلا في بعض التفاصيل الصغيرة، واجتمعت كلها على طقس إشعال النار وذبح القرابين والاحتفال الكرنفالي، وموعد إحياء المناسبة في فترة الانقلاب الشتوي حصراً، حيث تروي هذه الطقوس قصة خلق حياة جديدة وصراع الخير والشر، ماذا حدث وكيف حدث حيث تخبأ في تفاصيلها الحقيقة كاملة.

من طقوس المناسبة التراثية

وفي قرى الساحل السوري اعتاد الناس منذ مئات السنين إحياء طقوس (الميليدي) على امتداد 13 يوماً، تطهى فيها أنواع محددة من الأطعمة منها "البربارة" المكونة من القمح واللحم، وهنا يتوقف اختيار نوع اللحوم على المقدرة الشرائية لكل أسرة، أيضاً في يوم "البشارة" تطهى أنواع متعددة من (الكبب) منها المحشوة باللحم والجوز والبصل، وأخرى محشوة بالسلق، وفي يوم (الميليدي) تخبز السيدات الفطائر الخاصة بهذه المناسبة وتسمى بالعامية (فطير الميليدي)، بالإضافة إلى اللحم المشوي، وهنا أيضاً يتم اختيار نوع اللحوم بحسب المقدرة الشرائية، بعد أن كانت في الماضي محددة بلحم ذكر الماعز أو ذكر الغنم.

في زمنِ الفراعنة

يروي "تمام مرهج" أمين متحف الشيخ صالح العلي لمدوّنة وطن بتاريخ 14 كانون الثاني 2022 قصة (الميليدي) في زمن النبي "موسى" فيقول: «في زمن نبي الله "موسى"، كان أحد فراعنة مصر قد نصّب نفسه إلهاً، وأخذ يدعو الناس لعبادته، فحاول النبي وقومه الخروج من "مصر" هرباً من تعذيبه، إلا أن فرعون منعهم باستمرار، حتى أوحى الله للنبي بأن هذا هو رأس الشهور واسمه "أبيب"، وأمره أن تأخذ كل أسرة من قومه ذبيحةً ذكراً من الماعز أو الغنم، ذلك في يوم العاشر من "أبيب"، والأسرة الصغيرة تشترك مع أسرة أخرى، ثم يغمسون باقةً من النباتات العشبية بدماء الذبائح، وتطلى بها عتبات مداخل المنازل وقوائمها، ثم يُعجن الدقيق ويُخمر ويُقطع ويُدهن بالزيت، وتوقد النار في "الأتون" حتى تبيض جدرانه، فتخبز فيه الفطائر بكمية تكفي لـ 7 أيام، وتؤكل لحوم الذبائح مشويةً، ففعل قوم "موسى" ما أمرهم به، ودخلوا بيوتهم ولم يخرج أحد منها».

ويتابع: «وتقول الرواية أنه بعد ذلك أرسل الله ملاكه "عزرائيل" وكان اسمه في ذلك الزمن "المهلك"، فضرب بكرَ كل أسرةٍ في أرض "مصر" ومنهم بكرَ "فرعون" وحتى بكر البهائم، وكان يمر بجانب بيوت قوم "موسى" فيرى العلامة على قوائم المنازل وعتباتها فلا يدخلها، وفي تلك الليلة علا صوت الصراخ من كل بيوت "مصر" التي زارها الموت جميعاً إلا بيوت قوم "النبي"، فدعا الفرعون "موسى" وهارون" وأمرهم الخروج من أرض "مصر" مع قومهم ومواشيهم"، وكان ذلك في 13 أبيب أي كانون الثاني، يوم إحياء (الميليدي) ويوم بداية جديدة لقوم نبي الله "موسى"».

طقوسٌ وعادات

"تمرة المحمد" سيدة سبعينية من إحدى قرى ريف "القدموس" تحدثت لمدوّنة وطن عن طقوس (الميليدي) بين الماضي والحاضر حيث قالت: «كنا صغاراً نجلس في هذا اليوم للاستماع إلى حكايا جداتنا عن عيد (الميليدي)، مع إصرارهن على إشراكنا بالعمل وتحضير العجين وإيقاد التنور، حينئذٍ لم نفهم المغزى والدرس، لكن عندما كبرنا أدركنا أهمية نقل هذه العادات لأبنائنا».

أما ابنتها المدرّسة "أحلام علي" فقد رأت أن هذه ليست مجرد عادات موروثة بل هي تاريخ عريق، وهوية حضارية تمتد في جذورها إلى آلاف السنين، وتؤكد ضرورة الحفاظ عليها حتى في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.