المطبعةُ ذلك المكان المملوء بأصواتٍ يتردد صداها مع كل دورةٍ تقوم بها الآلة بسحب ورقة ثم أخرى لتطبع عليها صوراً أو حروفاً، وكأيّ اختراع مرّت العملية بمراحل عدة عبر الزمن إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

نستعرض فيما سيأتي نشأة المطابع الدمشقية، بداياتها وكيف كانت؟ وما هي البيئات التي صدَّرت لنا هذه التقنية التي أسهمت في تطوير ثقافة المجتمعات كلها.

سياقٌ تاريخيّ

يقول الباحث "محمد فياض الفياض" في حوار أجرته المدوّنة معه: "يرجّح البعض أن الحضارة الصينية هي مهد وموطن الطباعة باستخدام القوالب الخشبية، إذ كانوا ينقشون على سطوحها الكلمات والرسوم بشكلٍ مقلوب، ثم يقومون بعملية ختم هذه الرسوم على الأوراق وغيرها، وأول عملية طبع كانت في عام 1040 حين صنع "بي شنغ" Pisheng بعض مكعبات صغيرة من "الطّفل الفخاري" اللين، أي الطين، وحفر عليها الحروف الصينية، ثم قام بِشيِّها حتى تتصلب والقيام بطليها بطبقة من الحبرِ، ثُم قام بطبعها على الورق، والبعض الآخر يرى أن الطباعة الحديثة باستخدام الحروف المفردة بدأت في "ألمانيا" على يد "يوهانس غوتنبرغ" باستخدام آلة الكبس لهذه الحروف، ثُم ظهرت بعد ذلك الآلات الطابعة التي تدار باليد ثم بالبخارِ ثم بالكهرباء إلى أن وصلت إلى عالم التقنية الحديثة، كما أن المطبعة التي جلبها "نابليون بونابرت" إلى "مصر" هي أول مطبعة دخلت البلاد العربية.

أثناء العمل بالمطبعة

وظهرت الطباعة بالحروف العربية في عام 1486 وقد طُبع في عام 1505 في "غرناطة" كتابان بالعربية وهما "وسائل تعلم اللغة العربية ومعرفتها" و"معجم عربي بحروف قشتالية"، كما أكد الباحثون أن الأستانة عاصمة الأتراك العثمانيين هي أول بلد شرقي يعرف الطباعة الحديثة أيام السلطان "سليمان القانوني"، كما عرفت "لبنان" الطباعة في وقت مبكر حيث تم إنشاء المطبعة المارونية عام 1610م، وطبع بها كتاب "سفر المزامير" بعمودين بالسريالي والعربي، أما "سورية" فتعدُّ من أوائل البلاد العربية معرفة بالطباعة، وتعدُّ مطبعة "حلب" من أقدم المطابع العربية إذ ظهرت بعام 1706م، وبعد أكثر من مئة عام ظهرت مطبعة حجرية في "حلب"، وهي مطبعة "بلفنطى" ثم مطبعة الطائفة المارونية عام 1857م، كما ظهرت أيضاً مطبعة "جريدة الفرات" عام 1867م".

مطابعُ دمشقَ

يتابع "الفياض" حديثه بالقول": "في البداية تعثرت ولادة المطابع في "سورية" عموماً، وفي "دمشق" بشكل خاص بسبب الرقابة الصارمة والقيود المفروضة على المطابع والكتب آنذاك، إذ نجد بأن ثلاثاً منها أسست قبل تولية السلطان "عبد الحميد" في العام 1876م وخمساً منها أقيمت في عهده، توقف معظمها عن العمل ليصل العدد إلى تسع مطابع، وبعيد صدور دستور عام 1908م وتسلم جمعية الاتحاد والترقي التي روجت للطباعة والنشر بهدف إقناع المثقفين بموقفها المعارض لسياسة الحكم السابقة، كما بقيت الكتب وبخاصة النافعة منها قليلة وربما قليلة جداً، وذلك لتفضيل أصحاب المطابع أرباحهم الشخصية على حساب نوعية الكتاب وقيمته الأدبية أو التراثية، فقد ولدت المطابع في البيئة الدمشقية تماشياً مع حاجة المجتمعات إلى العلم والفكر والتنوير ومنها "مطبعة الترقي" لصاحبها "محمد كرد علي" في حي "القيمرية"، والتي صدر عنها صحيفة "المقتبس" التي كانت تعدُّ أهم صحيفة في عام 1908، ومطبعة "صالح الحيلاني" في منطقة "سيدي عمود" في "الحريقة"، ويعد المرحوم "صالح عبد الرحمن الحيلاني" المولود في حي "القيمرية" من أهم رجالات مرحلة الانتداب الفرنسي وكان معارضاً شرساً، حيث رفض رفضاً قاطعاً طباعة أي كتاب باللغة الفرنسية، وأصر على عدم امتلاك الحروف اللاتينية، وتبرع بجزء كبير من إيرادات مطبعته لدعم الحركة الوطنية ومقارعة الاستعمار الفرنسي، وقد حكمت عليه السلطات آنذاك بالإعدام أكثر من مرة لاستمرار طباعة المنشورات المناهضة للاستعمار.

قوالب طباعية

ويقال إن "الحيلاني" اشترى من الزعيم "محمد كرد علي" مطبعة "الترقي"، وقرّب العديد من الشخصيات الوطنية إلى عمله ومنهم "سعيد السادات"، "عبد الحفيظ العلبي"، "عبد الرحمن الإمام" الدكتور "فؤاد العتقي"، "رضا القضماني" "نوري العاقل"، "عبد البديع هيكل" و"نصر الدين البحرة".

مراحلُ التأسيسِ

ويضيف "الفياض": "أصبحت مطبعة "الترقي" من أهم المطابع الدمشقية مكانةً واهتماماً بالكتاب الهادف، كما أصبحت هذه المطبعة مدرسة لتعليم حرفة الطباعة وقد تخرّج منها حرفيون مُخضرمون، أتقنوا الحرفة بفضل الإدارة الثابتة التي سلكها "الحيلاني" والكادر المختص لديه، إذ تقاضى العاملون أجورهم بنظام المحاصصة، وبعدها استطاعوا الخروج إلى الحياة العملية وتأسيس العديد من المطابع بمنهجية سليمة وعالية التقنية، ومنهم الراحل "وجيه بيضون" الذي زاول هذه الحرفة منذ مطلع العام 1915م، ولا أقول مهنة لأنها ترتقي إلى مراتب الإبداع والتفرد، حيث انكب على المطالعة بشغف، وتعلق بالأدب والصحافة، ونشرها في جريدة "المُقتبس" و"ألف باء" اللتين كان يُنضد موادهما في المطبعة ليبدأ كتاباته الأدبية ولينشئ مطبعته الخاصة وهي "مطبعة ابن زيدون"، لكن مطبعة "الترقي" تفردت بتنوع مطبوعاتها ابتداءً من الكتاب المدرسي وانتهاءً بالكتب الأدبية والعلمية، أما "الحيلاني" فقد تفرد في طباعة نفائس الإصدارات ومنها: مجلة "المقتبس"، مجلة "المجمع العلمي العربي" وصحيفة "التمدن الإسلامي" وصحيفة الألف باء"، ومن المطابع المهمة أيضاً مطبعة "الروماني" التي تأسست عام 1855م، بالإضافة إلى مطبعة ولاية "دمشق" التي تأسست عام 1864م".

من آلات الطباعة

ويختم "الفياض" بالإشارة إلى أن البيئة الدمشقية كانت بيئة مناسبة ومهمة لولادة أهم المطابع فيها بالرغم من خصوصية المدينة وحجمها وعدد سكانها مقارنة مع المحافظات الأخرى ولا سيما "حلب" التي كانت تنافس "دمشق" في حقل الثقافة والصحف والإعلام، ويذكر بعض الباحثين بأن عدد المطابع قد بلغ في "سورية" عام 1952 حوالي 47 مطبعة في "دمشق" وحدها و14 مطبعة في "حلب" والباقي ينتشر في المحافظات كلها.

تفاصيل

خلال جولتنا بين مطابع "دمشق" التقينا "وائل الخطيب" صاحب إحدى المطابع في منطقة "الحجاز" والذي ورث هذه المهنة عن أبيه حيث أكد أن فن الطباعة قفز قفزات واسعة ليساير النهضة العلمية والتقدم التقني، فقد كانوا في الماضي يطبعون كل كرت أو قطعة لوحدها، وهذا ما يتطلب مزيداً من الوقت والجهد، وفي حين أبقت الطباعة المعاصرة على جميع فنون وتقنيات الطباعة الأولى، لكنها من جانب آخر طورتها، وأضافت إليها الطباعة الملونة بدقة متناهية.

ولفت الخطيب إلى أن هناك أنواعاً من الطباعة كالطباعة البارزة التي تعد من أقدم أنواع الطباعة وتعتمد على تحبير الحروف المصنوعة من المعدن أو النايلون أو السيريل ثم ضغطها على سطح الورق، كما أن هناك الطباعة الغائرة التي تستخدم لطباعة الصور والمجلات والطوابع وغيرها، والطباعة المسامية والنافرة والنفث الحبري، كما تنوعت آلات الطباعة فمنها المسطحة والأسطوانية والدوارة، فمعظم مطبوعات اليوم تطبع بطريقة الطباعة الملساء المعروفة باسم "الأوفست" وهي تقنية طباعية عالية الدقة عُرفت منذ أكثر من مئة عام، حيث يمكن طباعة مطبوعة بعدة ألوان مرة واحدة عبر وحداتها، التي تتولى كل منها طباعة لون محدد، وهذه الطريقة هي المفضلة في طباعة الصحف والكتب والمجلات الملونة لدقتها وسرعتها وإنتاجيتها العالية، وهناك مطابع تطبع كتباً وكتيبات وملصقات منها متخصصة بطباعة العلب والتغليف والكرتون ومطابع الأظرف ومطابع ورق الكمبيوتر، وهناك مطابع تطبع كتباً وكتيبات وملصقات منها متخصصة بطباعة العلب والتغليف والكرتون ومطابع الأظرف ومطابع ورق الكمبيوتر، ثم هناك مطابع صغيرة متخصصة بنوع خاص من الطباعة الفاخرة.

تقنياتٌ عصريّةٌ

دخلت الطباعة عالم التكنولوجيا بمجالاتها المتنوعة فلم تقتصر الطباعة على الورق بل دخلت مجالات عدة كالطباعة الحرارية على الخزف والأقمشة باستخدام الكمبيوتر، وتقول "نوار الخياط" صاحبة إحدى المحلات التجارية في "الحميدية": "إن هذه التقنية تعتمد على الحرارة كأساس للطباعة بواسطة المكبس الحراري (ماكينة حفر الليزر) حيث تتم طباعة الصورة أو الشعار أو التصميم على الورقة بطابعة "البليميشن" ثم توضع الورقة المطبوعة على الخامة ونضعها في الماكينة ويتم ضبط الوقت المناسب وسيتم نقل الصورة بالحرارة على الخامة.

ويقول الأديب الحرفي الدمشقي "وجيه بيضون" في كتابه "بين الصناديق" الَّذي عقد فيه فصلاً كاملاً للكلام عن تاريخ الطباعة في "سورية" والعالم العربي: "من المؤسف أن الشرق العربي لم يتأدَّ له أن يعرف الطباعة إلا متأخراً، أي بعد قرنين تقريباً من ظهورها، بيد أن بعض الكتب طبعها الأجانب قبل ذلك فقد طبعت في مدينة "فانو" الإيطالية في العام 1514-1516م بعض الكتب العربية، كما طبع غيرها في مطابع إيطاليا" ومنها جغرافية "الإدريسي" و"نزهة المشتاق" وكتاب "القانون" و"الشفاء" لابن سينا، كما طبعت بعض الكتب في "لايدن" بهولندا، وفي "باريس" و"لندن" ولايبزغ ما بين العام 1595- 1755م.

أجريت اللقاءات بتاريخ 20 كانون الثاني 2022.