مع تراجع الإقبال على القراءة عموماً وضعف اقتناء الكتاب الورقي لصالح الكتب الإلكترونية، تراجعت الحرف المرتبطة بالكتاب الورقي بل تكاد تصل لمرحلة الانقراض، ومنها حرفة تجليد الكتاب وزخرفته وتزيينه.

لإلقاء الضوء على هذه الحرفة التقينا بالحرفي"محمد وليد نابلسي" الملقب (أبو فراس) صاحب ورشة "النابلسي" وهي الورشة الوحيدة التي ما زالت تجلّد الكتاب بطريقة يدوية بالكامل.

مهنة تجليد الكتب يدوياً على حافة الاندثار فهي لم تعد مطلوبة كالسابق، وذلك لأسباب عديدة منها التكلفة المرتفعة للمواد المستخدمة في التجليد وبالتالي ارتفاع التكلفة بالنسبة للزبون، وكذلك لم يعد للكتاب الورقي الاهتمام كما في السابق، لا يوجد من يتعلمها فهي مهنة آيلة للاندثار

مراحلُ العمل

يقول "نابلسي": «هذه المهنة ليست متوارثة ضمن العائلة بل تعلمتها من أخي الأكبر ثم افتتحت الورشة عام 1976، نُحضر الكتاب المراد تجليده ثم نفرطه كل ورقة على حدة، ثم يبدأ العمل بخياطة الكتاب خياطة يدوية، ثم بعد الانتهاء من خياطة الكتاب كاملاً، تبدأ المرحلة الثانية وهي اللصق بواسطة الغراء ويتم وضم البطانة المزدوجة ونسميها بمصطلح المهنة "القميص"، ونضع قطعة من الورق المقوى لتحمي الكتاب ثم يقص ويتم تنعيم الحواف يدوياً بالشاكوش ثم يربط بملزمة، وتختلف مدة الربط فخلال الصيف تكفيه أربع ساعات أما في الشتاء فيحتاج حتى يجف لليوم التالي، ثم نضع قماش الشاش للورق المقوى ليمسك الكعب مع الورق المقوى معاً، وبعدها يتم تفصيل أركاية (فتايل) خاصة بشكل الكتاب، وتفصل كعبية من الجلد الطبيعي وهو جلد من الماعز أو الخروف ثم مرحلة التذهيب وهي خطوط للزخرفة، وأخيراً تتم طباعة اسم الكتاب واسم المؤلف باللون الذهبي وهو ذهب أجنبي".

المجلد وليد النابلسي وتجليد كتاب قديم.

اختلافُ الأدوات

آلة قديمة لضغط الكتب

اختلفت حرفة التجليد مع التطور الزمني، وتطور الأدوات المستعملة، ويضيف" نابلسي": «في الماضي كنا نستعمل الذهب ولكن الآن سعره مرتفع جداً، والآلات التي نستعملها لم تتغير عبر الزمن باستثناء مادة الغراء، فقد كان يغرى الكتاب بمادة الغراء الأحمر، وهو الذي يستعمله النجارون ويصنع من عظام الأبقار والجمال، ومع الزمن بدأ استعمال الغراء الأبيض إلى الآن.. كان التذهيب يتم بواسطة الذهب الحقيقي، أما الآن بواسطة مادة النحاس، وكلما زادت نسبة النحاس فإن الرسم يكون غير ثابت ويمحى، وكلما كانت نسبة الذهب أعلى كلما كان أكثر ثباتاً».

عملٌ جماعيٌّ

كانت مراحل تجليد الكتاب تمرُّ عبر عدة أشخاص كلٌّ يقوم بجزء من العمل، وأصعب المراحل هي الطباعة وتتم طباعة الاسم حرفاً حرفاً، كل حرف لوحده يعرض للحرارة ثم يوضع على الورق الذهبي وهو غير مستعمل حالياً.

كعب كتاب مذهب

أما أدوات العمل فهي المقص والمربط والمقطع والمكبس للعمل اليدوي والكوي، وللتذهيب قلم حراري (كاوي) خط لرسم خط مستقيم أو منقط، وهو مصنوع من النحاس وخط الجنزير وقلم لرسم نقشة الوردة وملزمة لتثبيت الكتاب بعد لصقه ويمكن تثبيت عدة كتب معاً.

ويضيف "نابلسي": «لف (البيز) هو عبارة عن قطعتين من الورق المقوى وحبل يربط بينهما، ويوضع قميصان على الكتاب ثم يوضع الغراء ويغلق فقط وهو غير مكلف وسريع دون كعب جلد وهو المرغوب حالياً، ومن يطلب التجليد لديه مكتبة ويريد وضع كتاب فيها، فهو مضطر لتجليده مثل باقي الكتب في المكتبة، ويطلب من زوار "عراقيين" وغيرهم من خارج القطر لأنه ليس لديهم تجليد، وحالياً الورشات الكبيرة أصبحت كلها آلات، ولف (البيز) هو تجليد إفرنجي لا يستخدم الجلد وكله لف آلي وبكميات كبيرة، ويحتاج الكتاب حتى يتم تجليده من يومين إلى خمسة أيام.

هذه المهنة لا تحقق مردوداً وهي غير مرغوبة وغير مطلوبة حالياً بسبب زيادة تكلفة التجليد، فمقارنة بضرورات الحياة فإنّها تعدُّ غير ضرورية».

بداياتٌ تاريخيّة

تقول الباحثة "سوسن رحمة" في بحث أجرته عن حرفة تجليد الكتاب والمراحل التي مرت بها: «يعدُّ الكتاب من أهم كنوز الحضارة الإنسانية، فهو يعبر عن ملامح الحضارات القديمة، ويعطي الكثير من المعارف للأجيال القادمة، ويعدُّ عمل المُجلد في فنون صناعة الكتاب متمماً لعمل الخطاط والمصور (الرسام)، فكانت مسؤوليات المجلد حفظ أوراق الكتاب من التلف، والعناية بمظهره الخارجي بحيث تتناسب مع قيمة الكتاب ومحتوياته».

وتشير الباحثة إلى أن أول ظهور لفن تغليف الكتب وتجليدها، كان عند أقباط "مصر" لاهتمامهم بنسخ وتجليد الكتاب المقدس، وكانت أول مادة استعملت بتجليد الكتب هي ألواح الخشب، وكانت تزخرف وتطعّم بالعاج أو تزيّن بصفائح الذهب والفضة المرصعة بالأحجار الكريمة أو تغلّف بالقماش المطرّز، وهذا ما جعل هذه الأغلفة الثمينة عرضة للسرقة، لذلك لم يصل منها إلا القليل المحفوظ في المتاحف الإسلامية والأوربية.

أربعُ مراحل

وتبين "رحمة" أنّ القرآن الكريم هو أول كتاب عرف في العصر الإسلامي، واعتنى المسلمون بتغليف وتجليد المصحف وأخذوا الطريقة من أقباط "مصر"، مشيرة إلى أنّ فن صناعة الكتاب في العصر الإسلامي يتألف من أربعة أركان رئيسية هي: الخط والتصوير والتذهيب والتجليد، ويسمى من يعمل في نسخ الكتاب بالخط المناسب "الخطاط"، ومن يقوم بالزخرفة والمنمنمات"المصور"، ومن يقوم بزخرفة الصفحات الأولى من القرآن الكريم "الطرّاح"، ويسمى"المذهّب" من يضع ماء الذهب على الرسوم والزخارف الموجودة في الكتاب، ويسمى"القاطع" من يقوم بقص الكتاب ليأخذ شكله النهائي ويضع الجلد لصناعة الغلاف.

وتختم الباحثة حديثها بالقول: «مهنة تجليد الكتب يدوياً على حافة الاندثار فهي لم تعد مطلوبة كالسابق، وذلك لأسباب عديدة منها التكلفة المرتفعة للمواد المستخدمة في التجليد وبالتالي ارتفاع التكلفة بالنسبة للزبون، وكذلك لم يعد للكتاب الورقي الاهتمام كما في السابق، لا يوجد من يتعلمها فهي مهنة آيلة للاندثار».

تمت اللقاءات بتاريخ 25 تشرين الثاني 2021.