يقودنا الغوص بمؤلفات التاريخ إلى عالم واسع من الأسرار والمفاجآت التي كانت مجهولة بالنسبة لنا، كذلك تكشف الغنى الحضاري للأرض "السورية" بمختلف مكوناتها، والمزايا الفريدة التي جعلت منها مطمعاً ومقرَّاً مختاراً لأهم أباطرة العالم.

مدوّنة وطن "eSyria" توجهت مجدداً لزيارة المهندس "نهاد سمعان" في مقرِّ منفذية "الحزب السوري القومي الاجتماعي" الذي كنّا قد تحدَّثنا معه بمادة سابقة عن الأعياد السورية القديمة، لنسأله عن أهمية "سورية" التاريخية بالنسبة للأباطرة والملوك الذين دخلوها وجعلوا من بعض مدنها مقرَّاً لهم.

هنا يجب علينا الإضاءة بشكلٍ موجزٍ عن الميزات التي جعلت من الأرض "السورية" مهداً للحضارة الإنسانية، وبأنَّ حضارة "سورية" قد بدأت من خلال المحراث والتطور الزراعي الذي كان سائداً فيها لآلاف السنين قبل الميلاد وهذا ما أنتج وفرةً في الإنتاج الزراعي، ووجود المقومات الجغرافية والبيئية لها، وتعدد الفصول وانتظامها، مما استدعى ظهور طبقات اشتغلت بزراعة الأرض لاحقاً، كلُّ ذلك خلق مساحة واسعة لدى طبقة معينة من السكان لتطوير أفكارها، والإبداع بمجالات أخرى، فكرية، وعمرانية، ومجتمعية، ساهمت رويداً رويداً بنشوء ما يسمى (الحضارة السورية) التي كانت سبباً فيما بعد لقدوم الممالك الغازية إليها، عدا عن موقعها الواصل بين قارات العالم الثلاث المعروفة آنذاك وهذا ما شكَّل مطمعاً إضافياً بها

مهدُ الحضارات

يبدأ "سمعان" حديثه بالتساؤل: لماذا تصنع الحضارة من أمَّةٍ ما دون سواها؟ ويضيف: «هنا يجب علينا الإضاءة بشكلٍ موجزٍ عن الميزات التي جعلت من الأرض "السورية" مهداً للحضارة الإنسانية، وبأنَّ حضارة "سورية" قد بدأت من خلال المحراث والتطور الزراعي الذي كان سائداً فيها لآلاف السنين قبل الميلاد وهذا ما أنتج وفرةً في الإنتاج الزراعي، ووجود المقومات الجغرافية والبيئية لها، وتعدد الفصول وانتظامها، مما استدعى ظهور طبقات اشتغلت بزراعة الأرض لاحقاً، كلُّ ذلك خلق مساحة واسعة لدى طبقة معينة من السكان لتطوير أفكارها، والإبداع بمجالات أخرى، فكرية، وعمرانية، ومجتمعية، ساهمت رويداً رويداً بنشوء ما يسمى (الحضارة السورية) التي كانت سبباً فيما بعد لقدوم الممالك الغازية إليها، عدا عن موقعها الواصل بين قارات العالم الثلاث المعروفة آنذاك وهذا ما شكَّل مطمعاً إضافياً بها».

المهندس نهاد سمعان

الفترةُ الأجمل!!

كتاب المؤرخ فيليب حتي

يرى المهندس "نهاد سمعان" بأنّ فترة "العصر الهيلنستي" التي بدأت مع وصول "الاسكندر المقدوني" إلى الأرض "السورية" عام 333 ق.م، كانت من أجمل الفترات الزمنية التي شهدتها "سورية" الطبيعية والتي تمتد من سفوح جبال طوروس شمالاً وصولاً للبحر المتوسط غرباً، وإلى أرض "فلسطين" والصحراء العربية جنوباً، وحتى بلاد ما بين النهرين شرقاً، تمَّ ذلك بعد انتصار جيوشه على جيش مملكة "الفرس" في معركة "ايسوس" في المنطقة التي بنى عليها لاحقاً المدينة التي حملت اسمه "اسكندرونة" تخليداً لذكرى ذلك الانتصار، ومن هنا يقول الباحث: بدأت حركة تشييد المدن السورية لاحقاً، والتي بناها أحد أهم قادته واسمه "سلوقس" الذي ورث مع القادة الثلاثة الآخرين مملكة "الاسكندر" وكانت "سورية" وسائر أنحاء المشرق، هي نصيبه منها، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً بشكلٍ مفصل عند الوصول إلى ما يسمى "الجنَّات الثلاث"، لكنَّ المهم بالأمر أنَّ ذلك الوريث قد بنى أكثر من 18 مدينة هيلنستية منها على سبيل المثال لا الحصر "أفاميا" على اسم زوجته، و"لاودوكيا" تكريماً لوالده، وأهمها "انتاكيا" المعروفة باسم "انطاكيا" حالياً على اسم والده "انتيوخوس"، إضافة لمدينة "سلوقيا" المسماة باسمه والتي تقع على ضفاف نهر "دجلة"، هذه المدن بنظامها العمراني الفريد شكَّلت بمجملها مظاهر "الحضارة الهيلنستية" في "سورية" إضافة للحضارة "السورية" التي كانت قائمة قبل ذلك بعصور طويلة».

الجنَّات الثلاث...

جاء ذكرها في العديد من مؤلفات المؤرخين الغربيين، وكذلك ضمن المؤلَّف الذي وضعه المؤرِّخ والباحث اللبناني الدكتور "فيليب حتي" عام 1950 وعنوانه "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" بجزئه الأول كما ذكر المهندس "سمعان" بحديثه مع مدوّنة وطن "eSyria" وتابع قائلاً: «تقاسم إرث امبراطورية "الاسكندر" جرى بين قادة جيوشه الأربعة وهم: "بطليموس" الذي نال الحكم على أرض "مصر" و"انتيغونس" الذي كان نصيبه مملكة "آسيا الصغرى"، وثالثهم هو "انتيباتر" الحاصل على مملكة "مقدونيا"، أمَّا رابعهم فهو "سلوقس" الذي ذكرناه سابقاً، جرى ذلك الاجتماع عام 312 ق.م وقد اعتبر ذلك التاريخ بدء قيام المملكة "السورية" ، أمَّا مكان اجتماعهم فقد جرى في منطقة تقع بالجهة الجنوبية الغربية من مدينة "حمص" أو "Emmesa" -كما كانت تسمى آنذاك- وتدعى "جوسية" وهي حاضرة مدنية وفيرة الخيرات قريبة من بلدة "ربلة" التي كانت تتبع مملكة "حماة"، والتي ورد ذكرها في كتاب "العهد القديم" وتحديداً في (سفر الملوك الثاني 2مل 25: 21) حيث كانت مقرَّاً للملك "نبوخذ نصر" أيام حكمه، وليس هناك من مرجع يوضح سبب تسميتها بمسمى "الجنَّات الثلاث"، إلاَّ أنَّ طبيعتها الغنَّاء والحضارة العمرانية التي كانت قائمة فيها، والتي تظهر من خلال الحجارة المستخدمة بالبناء بتلك الفترة وما قبلها وما زالت آثارها واضحة في "دير مار الياس" القائم حالياً، كلُّ تلك الدلائل قد تكون من ضمن أسباب ذلك، لكن المؤكدَّ بأنها أرض "سورية" مزدهرة قبل وصول الملوك اليونانيين إليها، وفيها جرى اقتسام إرث أهم امبراطورية عبر التاريخ».

ورثة الإسكندر

توفي الاسكندر المقدوني في شهر حزيران من سنة 323 ق.م في مدينة" بابل" التي كانت عاصمة لمملكته، هنا اجتمع كبار قادته، بهدف الاتفاق على شخص يتولى إدارة شؤون امبراطوريته، سمي ذلك الاجتماع "مؤتمر التقسيم الأول"، هذا ما أخبرنا به ضيف موقع مدوّنة وطن "eSyria" الدكتور "محسن محمد" أستاذ قسم "التاريخ الروماني" في جامعة "البعث" الذي أضاف قائلاً: «بعدها بعام تمَّ عقد"مؤتمر التقسيم الثاني" والذي جرى في منطقة "تريباراديسوس" والتي تعني "الفردوس المثلث" أو "باراديسوس" ويعني "الجنة"، حضر ذلك الاجتماع القادة الأربعة وهم: "انتيجونوس" و"انتيباتروس" ومعهم "بطليموس" و"سلوقس". وبحسب ما ذكر المؤرخ اليوناني "ديودوروس الصقِّلي" فقد تمَّ اقتسام مملكة "الاسكندر المقدوني"، ليرث كلُّ منهم إحدى الممالك التابعة لها، لكن المهم بالأمر أنَّ مكان ذلك الاجتماع بحسب ترجيح بعض الجغرافيين اليونانيين أمثال "سترابون" الذي ذكر بأنه في منطقة تقع عند منابع نهر "العاصي"، لكن لم يحددها بدقة مؤكدة، في حين أنَّ زميله الآخر "كلاوديوس بطليموس" كان أكثر دقَّةً بتحديد ذلك المكان، حيث أوضح بأنَّه محصور في النقطة التي تقع عند تقاطع 10 درجات من خط العرض جنوب "اللاذقية" مع 5 درجات من خط الطول شرقاً، وبالتالي تكون بلدة "ربلة" الواقعة جنوب مدينة "حمص" بنحو 30 كم على الضفة اليمنى لنهر "العاصي" هي المكان الأصح الذي عقد فيها اجتماع ورثة "الاسكندر"، والتي لا تزال محتفظة باسمها حتى زمننا الراهن والذي يفسَّر باللغة الآرامية بمعنى "الأرض الخصبة"».

ويرى الدكتور "محمد" أن العالم الفرنسي "باول بيردريزيت" أيَّد ذلك الرأي، وأضاف بأنها تلك المنطقة الواقعة جنوب قرية "ربلة" المشهورة بذكرها، والذي جاء في "الكتاب المقدَّس" دون ذكر اسمها المفصَّل، ليأتي "إدوارد روبينسون" عالم الآثار الأميركي ليؤكِّد أنَّ الاحتمال الأكثر دقَّةً للمعلومات التي أوردها "بطليموس" هي بلدة "جوسيه" القديمة والتي تحوي كمَّاً كبيراً من المعالم الأثرية، في حين أنَّ المؤرخ اللبناني "أسد رستم" قد ذكر في أحد مؤلفاته بأن منطقة "الجنَّات الثلاث" تقع بالقرب من منابع "العاصي" وحنوب مدينة "الهرمل" بحوالي 10 كم، لكنَّه وضع احتمالاً آخر بأن تكون "جوسيه" الواقعة جنوب غرب مدينة "حمص" هي تلك الأرض السورية التي جرى فيها اجتماع ورثة "الاسكندر".

نذكر نهايةً بأنَّ التواصل مع الدكتور "محسن محمد" قد تمَّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتاريخ 14 كانون الأول 2021.