يعدُّ مشفى "البيمارستان الأرغوني" بمدينة "حلب" واحداً من أشهر الأوابد الأثرية الباقية في حي "قنسرين"، وجرى تخصيصه للأمراض النفسية، وبالرغم من تاريخ بنائه الذي يعود إلى سبعمئة عام تقريباً، لا تزال أجنحة وغرف المشفى وردهاته ومداخله حتى اليوم محافظة على أصالتها وطرازها المعماري.

موقع مدوّنة وطن "eSyria" زار مشفى "البيمارستان الأرغوني" الواقع في حي "باب قنسرين" برفقة الباحثة المهندسة "مروة مارديني" وجال بالمشفى الأثري واستمع لشرح مفصل عن تاريخ وبناء هذا الصرح الأثري.

البيمارستان كان بيتاً لأمير، فتوصل إليه بطريق شرعي، ولم يغير بوابة تلك الدار عن حالها، إنما كتب عليها هذه معمورة، وهذا البيمارستان له أوقاف مبرورة، منها قرية "بنش" من عمل "سرمين" وغيرها، وكتاب وقفه موجود، وقد رتب فيه قراء يقرؤون القرآن طرفي النهار، ورتب ووضع فيه جميع كل ما يحتاجه المرضى لشفائهم

بالتوصيفِ

يقع "البيمارستان الأرغوني" في قلب مدينة "حلب" القديمة من جهة الجنوب، في "حي قنسرين" في شارع يدعى "درب البنات".

أعمدة رواق الفناء الرئيسي

ويعدُّ من أهم البيمارستانات التي خلّفتها الحضارة العربية الإسلامية في "حلب"، وذلك من حيث تخطيطه ونظامه الدقيق، وما فيه من عناصر معمارية أصيلة، وهو أفضل الأبنية التي من نوعه في "سورية" و"مصر"، بناه نائب السلطة المملوكية في "حلب" "أرغون الكاملي" عام 755 للهجرة و1354 ميلادي، بأمر من "السلطان الناصر محمد بن قلاوون".

وللبيمارستان مدخلان أحدهما رئيسي والآخر فرعي، يقع المدخل الرئيسي للبيمارستان في الواجهة الغربية، ويؤدي إلى ردهة إلى يسارها حجرة واسعة، كانت مخصصة للأدوية (صيدلية)، وإلى يمين الردهة حجرتان للانتظار والمعاينات الخارجية، ولهذه الحجرات الثلاث نوافذ مطلة على الشارع.

الباحثة المهندسة "مروة مارديني"

وله صحن واسع مستطيل الشكل مفتوح على السماء، تتوسطه بركة ماء كبيرة تضم نافورة جميلة، لترطيب الجو، وبجانبها الشرقي بئر للماء، وعلى جانبي الصحن الغربي والشرقي رواقان يرتفع كل منهما على أربعة أعمدة ذات تيجان مقرنصة تتنوع في تشكيلاتها بين العمود والآخر، وترتكز عليها أقواس، وخلف الرواقين غرف صغيرة للأطباء أو للمرضى، وفي القسم الجنوبي من الصحن إيوان كبير له قبة، يقابله في القسم الشمالي إيوان آخر أصغر منه، وفي جداره سلسبيل ماء، وهذا الإيوان مخصص للفرقة التي تعزف الموسيقا للمرضى الذين يجلسون في الإيوان الجنوبي، وفي النهاية الجنوبية للرواق ممر ضيق يعزل الصحن عن باقي البناء، ويوصلنا إلى ثلاثة أجنحة منعزلة عن بعضها البعض، بحيث يختص كل جناح من الأجنحة بدرجة معينة من المرض.

أجنحةٌ وردهات

تقول الباحثة المهندسة "مروة مارديني": «يتألف البيمارستان من ثلاثة أجنحة متداخلة ومنظمة لخدمة المرضى، الجناح الأول: وهو مخصص للحالات الخطيرة أو المستعصية، ويضم أربع غرف تتسع الواحدة منها لشخص واحد، وتطل كل غرفة بنافذة ذات قضبان حديدية على ساحة صغيرة مربعة الشكل في وسطها بركة ماء، واللافت للانتباه في هذا الجناح وجود ممر منكسر خلفي يصل بين الغرف، تُفتح عليه أبوابها، وليس باتجاه ساحة الجناح التي تسقفها قبة مقطوعة من أعلاها، ليدخل منها النور والهواء، ويُقال إن هذه الغرف تقلل الهيجان الذي ينتاب المريض.

الجناح الخاص بالنساء والشخصيات الهامة

أما الجناح الثاني فهو مخصص حسب قول الباحثة "مارديني" للمرضى العاديين الذين لا يشكلون خطورة على المرضى الآخرين، ويأخذ شكلاً مثمناً تتوسطه بركة ماء مثمنة تحيط بها إحدى عشر غرفة، تنفتح جميعها على الفناء، الذي تعلوه قبة قمتها مقطوعة، لتسمح بدخول النور والهواء، كما أن تصميم شكلها يسمح بعدم تسرب أصوات المرضى إلى الخارج كما يعزل الضجيج الخارجي عن نزلاء البيمارستان، فيما يعتقد أن الجناح كان مخصصاً للنساء والشخصيات المهمة، وهو مستطيل الشكل، ويتألف من ساحة مستطيلة، في الجدار الغربي فيها غرفتان وفي الجدار الشرقي ثلاث غرف، وكل هذه الغرف صغيرة لا تتسع لأكثر من شخص واحد كبقية غرف الأجنحة الأخرى، وفي جنوب هذه الساحة إيوان صغير، يقابله في الشمال إيوان آخر أصغر منه، وفي وسط الساحة بركة مستطيلة، تعلوها قبة متطاولة مقطوعة من الأعلى لتشكل منفذاً للإنارة والتهوية.

زخارفُ هندسية

وتضيف "مارديني": «على الرغم من التباين في وظيفة كل جناح، إلا أنها تتشابه في أسلوب البناء الذي يشبه بئراً مبنية فوق سطح الأرض بحيث لا يسمع من خارجها أي ضجيج أو صراخ، فلا يؤثر ضجيج المرضى في هدوء البيمارستان ولا يزعج السكان المجاورين، فالأجنحة الثلاثة مستقلة ومعزولة عزلاً صوتياً كاملاً، كما أنها معزولة حرارياً، هذا بالإضافة إلى أن المبنى مصمم لمقاومة الزلازل من خلال وجود أخشاب لامتصاص الحركة فبقي صامداً أمام الزلازل التي ضربت مدينة "حلب" بينما تهدمت أماكن كثيرة، وبالإضافة لهذه الأجنحة الرئيسية يوجد جناح خاص للخدمة وفيه الحمامات والمطبخ والمستودع وله باب يتم من خلاله إدخال الطعام والحاجات الأخرى وذلك حفاظاً على هدوء المبنى».

ويُعد مدخل البيمارستان الأرغوني تحفة معمارية فهو غني بالزخارف وبالمفردات الجمالية لجذب أنظار المارين في الشارع، في حين جاء تصميم البيمارستان من الداخل بسيطاً يلائم حاجات المرضى، ويكمن غنى المدخل في احتوائه على (صنجات معشقة- زخارف هندسية- زخارف كتابية- رنوك زخرفية- مقرنصات- ربع قبة صغيرة محززة) في تدرج مدروس بدقة وعناية، وتبدو مقرنصات المدخل وكأنها تتشعب من نقطة مركزية تشبه الزهرة أو الصدفة، وقد زُينت هذه المقرنصات بزخارف هندسية دقيقة.

أقوالٌ للتاريخ

يقول المؤرخ العربي "راغب الطباخ" في كتابه "أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" صفحة 188 : «البيمارستان كان بيتاً لأمير، فتوصل إليه بطريق شرعي، ولم يغير بوابة تلك الدار عن حالها، إنما كتب عليها هذه معمورة، وهذا البيمارستان له أوقاف مبرورة، منها قرية "بنش" من عمل "سرمين" وغيرها، وكتاب وقفه موجود، وقد رتب فيه قراء يقرؤون القرآن طرفي النهار، ورتب ووضع فيه جميع كل ما يحتاجه المرضى لشفائهم».

فيما يقول المؤرخ "أبو ذر" في كتابه "كنوز الذهب بتاريخ حلب" صفحة 448 : «أنشأ "الأمير "سيف الدين أرغون الكاملي" في سنة 755 للهجرة عمارة البيمارستان المنسوب بـ"حلب" داخل "باب قنسرين"، واجتهد في أمره ورفل في أثواب ثوابه وأجره، وشيد بنيانه، ومهد مجالسه وإيوانه، ورفع قواعده، وهيأ بيوته ومراقده، وأعد له الآلات والخدم، ورتب لحفظ الصحة فيه أرباب الحكم، وأباحه للضعيف والسقيم، وفتح بابه للراحل والمقيم، ورواه بالمياه الكثيرة وأنفق عليه أموالاً غزيرة، وكتب إن الذي أشرف على البناء هو "سيف الدين طيجا" كما تفيد العبارات المكتوبة فوق باب المدخل وهي بالخط الثلث ونصها: "بسم الله الرحمن الرحيم"، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، حيث أمر بإنشاء هذا البيمارستان المبارك أيام السلطان الملك "الصالح بن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون" "أرغون الكاملي" نائب السلطنة بـ"حلب" في سنة خمس وخمسين وسبعمئة، وكتب على الجدار الأيسر بخط الثلث أحكام أوقاف البيمارستان، حيث رُصدت لهذا المشفى كل ما يحتاج من نفقات وأدوية ورعاية للمرضى».

مدير "متحف حلب" الحالي الدكتور "صخر علبي" يؤكد أن : « أوج عصر مشفى "البيمارستان الأرغوني" كمركز استشفاء كان خلال فترة المماليك، ثم تحول بعد إنشاء المشفى الوطني إلى معالجة المشاكل العصبية والنفسية، ولاحقاً وضعت تحت إشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف، حيث كان من المخطط تحويله إلى متحف، وبالفعل تم البدء بتنفيذ ذلك المشروع، لكن مع دخول المدينة في أتون الحرب تعرض المشفى للتدمير والتخريب.

من جهته مدير "قلعة حلب" "أحمد غريب" قال في حديثه لـ" مدونة وطن": يعتبر" البيمارستان الأرغوني" مع قرينه "البيمارستان النوري" من المشافي المتطورة في الخدمات الطبية. إذ اهتم "البيمارستان الأرغوني" بمعالجة الطب النفسي، وله واجهة غاية بالجمال والإتقان، حيث زين المدخل بأشكال جميلة تعبر عن روح العصر الذي بني فيه. فالأمير "أرغون" أنفق عليه بسخاء وزوده بلوحات كتابية توثيقية، كما تم تقسيم الغرف حول الفناء المكشوف، والذي زود ببركة ماء وايوان ،بحيث تتسع كل غرفة لشخص واحد، لكون المريض بحاجة إلى عزلة خاصة.

تمّ البحث والتصوير داخل مشفى البيمارستان بمدينة "حلب" برفقة المهندسة الباحثة "مروة مارديني" بتاريخ التاسع من شهر كانون الأول لعام 2021.