من وحي التنوّع الحضاريّ الذي يميّز منطقة "القلمون الغربي" في محافظة "ريف دمشق" , تنسج النساء في مدينة "دير عطية" عبر جمعية "خاتون" التراثية الثقافية خيوطاً من صوف وأقمشة أحيلت إلى بسط تحاكي التراث "السوري" العابق بالأصالة، ليرسمن بالألوان الزاهية صوراً وجداريات أشبه بتحف زيّنت بيوتاً داخل الوطن وخارجه، فالجمعية التي لم يمضِ على تأسيسها سوى عام ونيف، تلمُّ شمل النساء المبدعات تحت راية المحافظة على الهوية الوطنية للصناعات التراثية والتقاليد والحرف التقليدية صوناً لها من الاندثار، وحرصاً على نقلها للأبناء جيلاً بعد جيل لتحكي تاريخ آبائهم وأجدادهم.

فرصُ عمل

تقول المهندسة "أسماء عبود" رئيسة جمعية "خاتون" التراثية الثقافية في حديثها لــ(مدوّنة وطن): "تمّ إحداث الجمعية بهدف بناء قدرات الكوادر النسائية المتخصصة في الصناعات الحرفية والتراثية، كما تستهدف الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع مثل الأرامل والمطلقات وذوي الشهداء والاحتياجات الخاصة، والارتقاء بالحرف والصناعات اليدوية ذات الجدوى الاقتصادية وجعلها عنصراً اقتصادياً مؤثراً لخلق فرص عمل".

وتضيف المهندسة "عبود": "تحرص الجمعية على تمكين المرأة اقتصادياً واجتماعياً من خلال الحرف اليدوية، والعمل على تطويرها والارتقاء بها وتحويلها إلى رائدة أعمال، من خلال تنفيذ وتشجيع الصناعات التراثية والحرفية والعمل على تطويرها، وتطوير القدرات الإبداعية والفنية للعاملات في مجال الصناعات الحرفية والتراثية، وتقديم الدعم والرعاية لأصحاب الهوايات بمن فيهن الفتيات".

في حضرة النول والسجادة اليدوية

تعاونٌ مثمرٌ

المهندسة أسماء عبود رئيسة الجمعية

وحسب" عبود" فالجمعية التي أشهرت بالقرار رقم 1974 تاريخ 15/7/2020، تسعى إلى إعادة التراث المادي واللا مادي الى الواجهة وتطويره والمحافظة عليه من الاندثار، وخاصة بعدما حظيت بدعم من وزارة الشؤون الاجتماعية العمل والأمانة السورية للتنمية والمجتمع المحلي، فالوزارة والأمانة السورية توليان موضوع التراث اهتماماً كبيراً، وعززا ذلك بتطوير وحدة الصناعات الريفية بـ"دير عيطة" وتوفير ما يلزم لجمعية "خاتون"، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال التشبيك بين الأمانة السورية للتنمية والجمعية عبر مشروع التدريب والتأهيل المهني من أجل المحافظة على الصناعات التقليدية المندثرة مثل صناعة -السجاد والبسط- بالإضافة الى ما قدمته الأمانة السورية للتنمية من تجهيزات لقسم الخياطة مثل آلات الخياطة وطاولات التفصيل ومقص كهربائي ومجموعة ديزل، وهذا الأمر سوف يؤدي -حسب قول رئيسة الجمعية- إلى رفد السوق باليد العاملة الماهرة وإنتاج بضائع مقبولة وذات جودة عالية وبأسعار مناسبة لأصحاب الدخل المحدود.

ورشةُ إنتاجٍ

من سنحت له الفرصة لزيارة الوحدة المعروفة بــ(معمل السجاد) يلاحظ مدى التفاني في العمل، فقد حوّلت جمعية "خاتون" التراثية الثقافية وحدة الصناعات الريفية في "دير عطية"، إلى وحدة صناعية تعجُّ بالحياة والإنتاج فالكل يعمل دون توقف، وهناك استوقفتنا السيدة "سعاد الشيخ سعد" وهي تقوم بتدريب الفتيات على صناعة السجاد اليدوي، تمد أمامها بساطاً من الألوان، تشد خيوطها بقوة أناملها المخضبة بالحناء، تقول في حديثها لــ(مدوّنة وطن): "تأتي مثل هذه الدورات التدريبية للسيدات لإكسابهن المهارات والحرف اليدوية ومنها تعلّم صناعة السجاد اليدوي على (النول)، حيث يمكن أن تسهم في تحسين المستوى المعيشي لهن ولأسرهن والانخراط في سوق العمل وفتح مشاريع صغيرة، وأيضاً تطوير المنتج الحرفي، كل ذلك من شأنه أن يعزز دور المجتمعات الإنتاجية".

من معارض الجمعية

مهارةٌ وحرفيّة

تمتلك السيدة "سعاد" رغم تقدمها في السن ذاكرةً قويةً جعلتها قاصّة متمكنة من سرد التفاصيل كاملة، فهي تتحدث عن النول بطريقة كما لو كانت تتابع الأحداث بالصورة والكلمة، تحسن استخدام أدوات العمل بمهارة، تنسج الخيوط الملونة بعناية فائقة، كما ظهرت براعتها في تنسيق الألوان التي غالباً ما يتم صبغها منزلياً، وبمواد طبيعية.

فيما تحدثت السيدة "نديمة عبود" عن علاقتها بحياكة السجاد اليدوي فهي ليست نسجاً للصوف فحسب، بل هي كما تصفها لــ(مدوّنة وطن) "علاقة حميمية" تكتسب أهميتها من حبها للتراث "السوري" الغني بمفردات الماضي الجميل، إذ لم تعد تستهويها أي صناعة حديثة للبسط أو السجاد مثل تلك التي تستخدم فيها الآلات والتقنيات بينما حياكتها للسجاد ما زالت يدوية فقط.

وتقول عبود : "لا يوجد ما هو أجمل من سجاد يحاك بأيدٍ "سورية" لتعكس التاريخ بلوحات تزيّن الأمكنة وتحافظ على تراث تتناقله الأجيال وتفخر به"، بهذه الكلمات اختصرت "عبود" هدفها السامي من عشقها لهذه الحرفة التي تعمل بها قلة قليلة من سيدات المجتمع المحلي، معربة عن فخرها واعتزازها بعودة الحياة للصناعات التقليدية من خلال جمعية "خاتون"، مؤكدة أن الجمعية ضربت أروع الأمثلة في العطاء والعمل الدؤوب والمحافظة على الصناعات التراثية.

ذوي الاحتياجات الخاصة

نجحت جمعية "خاتون" في استقطاب بعض الحالات من ذوي الاحتياجات الخاصة، واستطاعت أن تخلق منهم ظاهرة وقدوة تحتذى في الإصرار والتصميم والمثابرة، وها هو "يحيى بركسية" 22 عاماً شاب أصم من ذوي الاحتياجات الخاصة، موهوب يتفنن في إتقان حرفة التراث ومزج الحضارة بالحداثة، الجميع شاهده في قاعة معمل السجاد يعمل بنشاط وحرص، ولديه جلد على العمل يمتد لساعات طويلة كي يحقق هدفه في الحياة، يجمع المواد وأدوات العمل من هنا وهناك، ليخرج منها عبر سنارته وخيطه بقطعة نسيجية بسيطة وجميلة في الوقت ذاته.

تقول المهندسة "أسماء عبود" رئيسة الجمعية: "منذ مدة لم تتجاوز السنة زار الشاب "يحيى بركسية" الجمعية ومعه بعض الأعمال التي عبرت عن موهبته بالأشغال الفنية، والتزم معنا في دورات التدريب على شغل الماكينة وصقل تجربته على يد المدربة القديرة "انتصار السوسو" وأصبح اليوم قادراً على حياكة أعقد النقشات وأجمل الموديلات، وشارك مؤخراً عبر الجمعية في معرض دار الأوبرا في "دمشق" ونال جائزة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وكانت الأمانة السورية للتنمية قد أثنت على اهتمام جمعية "خاتون" التراثية الثقافية بكل شرائح المجتمع وخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، وخلال زيارة قام بها وفد الأمانة للجمعية التقوا خلالها مع المدربة "انتصار السوسو" والشاب "بركسية" واطلعوا فيها على نتيجة دعم الأمانة السورية للتنمية لمشاريع التدريب المهني والتي نتج عنها كفاءات تنتج رغم الإعاقة.

والشاب "يحيى" اليوم قرر أن يعمل أكثر، فقد افتتح مشروعاً صغيراً لبيع وحياكة الصوف في إحدى ساحات مدينة "دير عطية" وحصل على عناية خاصة بمشروعه من قبل المكتب التنفيذي لمجلس المدينة تشجيعاً له وتقديراً لطموحه وتحفيزاً لغيره.

مشاريع إنتاجية

من جانبهن أجمعت كل من السيدات (انتصار السوسو – عواطف القليح – كوكب الزحيلي – رنا معاد – وعد رعد - ريم التجار- نادرة حربا)، في حديثهن لــ(مدوّنة وطن)، على أن هدفهن من هذه المشاركات في دورات التأهيل والتدريب المهني والأعمال الإنتاجية التي تقوم بها جمعية "خاتون" التراثية الثقافية، هو إيصال فكرة أنه باستطاعة أي شخص أن يتقن حرفة أو صنعة يدوية ليجعل منها مصدراً للرزق أو المعيشة ويرتقي بموهبته بالوقت نفسه، إضافة إلى أنها رؤية لمشاريع صغيرة تساعد في حل أزمة اقتصادية كبيرة، وتوفير مهن في ظل عدم توفر فرص العمل، وطالبن أن تتوجه الجهات المعنية لدعم هكذا أفكار لترفع من شأن الصناعات التقليدية كونها مستمدة من التراث والحضارة "السورية".

خلاصةُ القول

النساء "القلمونيات" وعبر جمعية "خاتون" ينطلقن اليوم نحو المستقبل، حاملات معهن أحلاماً وطموحات، والحالة مشوقة تستحق الاهتمام لدعم هؤلاء الموهوبات لتسهم مشاريعهن في بث الحياة، وتوفير مشاريع عمل صغيرة تشغل اليد العاملة، وتسهم في الوقت ذاته بإحياء التراث والتاريخ والحضارة من أفكارهن وحرفهن اليدوية الشعبية البسيطة.