لم تتخلَّ دمشق عن لمسات الجمال التي رافقتها كواحدة من أعرق المدن التاريخية، فكانت بصمتها الدمشقية المميزة واضحة في كل حِرَفها الأصيلة وشاهداً على عبقرية صُناعها في كل أصقاع الأرض. ورغم ما تواجهه هذه المهن اليوم من ظروف صعبة، إلا أن العاملين فيها أوجدوا لها بعض الحلول، وأحيوا إبداعهم من جديد.

الحكاية اليوم تخص مشروع "بيت الشرق للتراث"، الذي جمع أكثر من 12 مهنة في بيت دمشقي قديم لحرفيين نجوا من ظروف الحرب الظالمة على سورية وخسروا ورشهم المهنية بالكامل، إلا أنهم عادوا ليتابعوا مسيرتهم والعمل في مهنهم وحرفهم اليدوية، التي لا تزال حية منذ مئات السنين خوفاً عليها من الزوال.

في زيارة خاصة لبيت الشرق للتراث الكائن في الجزماتية في حي الميدان الدمشقي، تتكشف لنا قصص، يحمل أبطالها الكثير من الشجون والهموم.

بيت الشرق

الموزاييك الدمشقي

ماهر بوظو

بدأت الحكاية من مدخل البيت؛ حيث يوجد ركن خاص يجلس فيه شخص يدعى زكريا الصافي، وهو حرفي يختص في صناعة الموزاييك، وكان قد خسر ورشته بالكامل في الحرب، وتوقف عن العمل لمدة أربع سنوات، لكنه عاد إلى حرفته من خلال مشروع "بيت الشرق للتراث"، الذي تتبناه جمعية الوفاء التنموية. وقد أكد الصافي أن المهن الدمشقية لا تزال حاضرة، وتحظى بمكانة خاصة عند أهلها الذين تفردوا بصناعتها. وقال إنه يركز في عمله الحرفي اليدوي على القطع التاريخية والعمل التراثي، وهذا ما جعل معاناته هو ومن معه كبيرة في تأمين المواد الأولية، رغم أن قطع الموزاييك تصنع من خشب الجوز والكينا التي تتواجد أشجارها بوفرة، ومن أشكال الصدف التي هي أيضاً متوفرة محلياً، إلا أن تفرّد أحد الأشخاص للمتاجرة بها، تسبب في ارتفاع الأسعار وتراجع التسويق.

يعتبر الصافي أن ذلك يعد أمراً مخجلاً، لأن هذه السلع تتعلق بمهنة تراثية تحمل اسم البلد، ويفترض المحافظة عليها كجزء من الثقافة السورية.

بيت الشرق من الداخل

لوحات فسيفسائية

كانت السيدة وفاء حسان تجلس في ركن خاص بالمنزل، وتضع أحجار الفيسفساء على أحد لوحاتها وترتبها بشكل جيد، وهي من السيدات القليلات في سورية اللواتي يعملن في مهنة الفسيفساء الحجري، والتي تشكل إحدى المهن السورية العريقة التي يحتضنها بيت الشرق للتراث. قالت حسان إنه خلال السنوات الأخيرة هاجر العديد من الحرفيين السوريين ولم يبق الكثير، لذا فإنها تجد متعة كبيرة وهي نحاول تعليم كوادر جديدة على هذه المهنة حفاظاً عليها من الانقراض. مشيرة إلى معوقات تتعلق بنقص الكتلة المالية وغلاء التكلفة وعدم وجود زبائن أو سوق لتصريف المنتجات، إذ إن أغلب الأعمال اليوم هي بناء على توصية.

المقرنص والخيط العربي

خلال جولتنا وصلنا إلى أحد الغرف المزينة بقطع المقرنص والشبابيك الأثرية، ومن ثم يصطحبنا السيد ماهر الشامي في رحلة تاريخية إلى عالم الماضي لمهنة المقرنصات والخيط العربي، وهو من أمهر حرفيي دمشق في هذا المجال، وشرح لنا عن القيمة التاريخية لهذه الحرفة التي عمرها مئات السنين، وتحدث عما قدمته لهم الجمعية من مساعدات على المستوى المالي والمكان وتوفير الآلات لمواصلة عملهم.

يقول الشامي: "إننا اليوم بالكاد نجد من يهتم بهذه المنتجات، فلا يوجد سوق لتصريفها، بعد أن كانت الأسواق السورية سابقاً تعج بالسياح من مختلف البلدان. وكانت المعارض تخصص جزءاً لدعم هذه المهن، إلا أننا اليوم نشعر بالخوف من أن تنتهي الحرفة بسبب غياب الدعم والاهتمام".

التطعيم والنقش

يعمل شادي عيسى ورفيقه في حرفتي التطعيم بالصدف والنقش الفاطمي أو ما يسمى الحفر اليدوي، ووصفوا المكان وأجوائه وبأنه أعادهم إلى ألق مهنتهم. أكدا أنه ليس لهذه المهنة عمر محدد، فقد شهدت تطورات في مراحل تاريخية مختلفة، منها المرحلة الفاطمية والعباسية، وصولاً إلى الوقت الحالي؛ حيث أخذت شكلاً مختلفاً عما كانت عليه قبل مئة عام، نتيجة لدخول الماكينات والليزر على هذه الصناعة، معتبرين أن ذلك أعطى دقة أكثر وسرعة في قص الصدف، إلا أنه لم يعطِ الروح التاريخية التي تتنفس بها القطع اليدوية.

الدهان الدمشقي

فيما استمد حرفيو النقش على الخشب العجمي، الأشكال المستخدمة بالنقش من التراث المعماري والفني للفترات التاريخية المختلفة. يقول ماهر بوظو، وهو حرفي سوري متخصص بالدهان الدمشقي العجمي: "كان ازدهار المهنة في العهد الأموي بعد أن حررها الإسلام من التجسيد، وتحولت الرسومات إلى زخارف نباتية، حيث كان أول عمل فني لهذه الحرفة ضمن هذا التوجه ينفذ في المسجد الأقصى المبارك على أيدي حرفيين دمشقيين، وبعدها بدأت بالانتشار في القصور والبيوت الفخمة، ومن ثم تحولت لتصبح تراثاً شعبياً، لدرجة أنه لا يوجد بيت في دمشق القديمة إلا وتزين جدرانه وأبوابه بالدهان الدمشقي". ويؤكد بوظو أن جلّ ما يقوم به اليوم هو من أجل الحفاظ على هذه المهن والحرف اليدوية من الانقراض، وإعادة بناء جيل جديد وتأهيله لمواصلة العمل بها، وخاصة أننا خسرنا عدداً كبيراً من الحرفيين خلال فترة الحرب على سورية.

البروكار والمشقف

في الوقت الذي تعرض فيه منتجات البروكار في خزائن قاعة الأزياء الشعبية بقصر العظم الدمشقي الشهير، حيث الألبسة المطرزة يدوياً من أثواب وسراويل وصدريات وغيرها، نجد أن "بيت الشرق للتراث" يحتضن النول الدمشقي القديم الذي حيك عليه فستان الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا، وهو متروك لا أحد يعمل عليه لأن التكلفة عالية جداً، فمتر البروكار الواحد يصل إلى 300 ألف ليرة سورية، والحرفيون يحتاجون إلى زبائن تشتري منتجاتهم أو إلى سوق لعرضها وتصريفها.

وفي ركن آخر، يحتضن بيت الشرق للتراث حرفة تدعى المشقف، وهي قطع رخام هندسية، إضافة إلى الروستيك الذي هو عبارة عن عملية فسيفسائية لها أشكال مختلفة، تنفذ بالأرقام، وهي من الحرف التراثية الدمشقية القديمة والتي تعود إلى العصر الأموي. يقول أصحاب هذه المهنة إن الماكينات الحديثة التي دخلت على المهنة، جعلت الإنتاج أكبر وأسرع، إلا أن العمل اليدوي يعطي لهذه القطع اسمها ونكهتها الجمالية التي تنبعث من روح التاريخ، فالأخطاء البسيطة التي يقع بها المهني هي التي تدل على أن العمل يدوي وليس مشغولاً عن طريق الماكينات.

نحو الأكاديمية

"بيت الشرق للتراث" أشبه ما يكون بأكاديمية سورية للحفاظ على الحرف الثقافية. وفي هذا الموضوع تحدثت السيدة رمال الصالح صاحبة هذا المشروع ورئيس جمعية الوفاء للتنمية، مشيرة إلى وجود ورشة ثانية تابعة لبيت الشرق ومخصصة لتصنيع العود الدمشقي القديم، وهي للحرفي بشار جودت الحلبي، موجودة في سوق ساروجة. وتؤكد الصالح أن هذه الورشة الثانية تشكل استكمالاً لمشروعها في الحفاظ على التراث الدمشقي. وهناك مشروع آخر في منطقة دوما القريبة من دمشق، وهو مخصص لصناعة الأغباني، هذه الحرفة المميزة والتي أبدعت بإنتاجها سيدات دوما على مر السنين.

تقول الصالح إن أغلب أصحاب المهن والمشاركين في هذا المشروع، هم أشخاص تضرروا من الأزمة وأوجعتهم الحرب، كما هي حال كل السوريين، وخسروا كل ما لديهم ودمرت ورشهم بالكامل، فكان هناك دعم من الأمانة السورية للتنمية، ممثلة بالسيدة الأولى. وقد أقيم المشروع بدعمها ورعايتها، وتمّ ترميم البيت وتقديمه للحرفيين للعمل فيه، مع جميع المستلزمات والأدوات اللازمة للإنتاج. ويأتي ذلك ضمن الأهداف الثقافية والتنموية للمشروع في الحفاظ على الهوية السورية لهذه الحرف واستمرارها للأجيال القادمة، من خلال استقطاب شريحة الشباب الجديد الذين لم يتمكنوا من متابعة تعليمهم المدرسي، والسيدات الراغبات في العمل المهني.

طموحات ومشاريع

تحدثت رئيسة الجمعة عن طموحها في المشاركة في كل المعارض التي تقيمها وزارة الصناعة ووزارة الاقتصاد والجهات الأخرى المعنية بالمعارض والأسواق لتقديم الدعم للحرفيين، وخاصة أن "بيت الشرق للتراث" يضم 12 حرفة فنية من أهم الحرف الدمشقية ويعمل عليها حوالي 30 شخصاً من أبرز المهنيين المتواجدين في سورية حالياً.

وقد أشارت الصالح إلى مشاريع أخرى، كمشروع ورش الخياطة التي تعمل بها السيدات المتضررات من الحرب والنساء المعيلات من مختلف الشرائح الاجتماعية، ومشروع بيت الإبداع الذي قسم إلى قسمين، الأول لذوي الهمم، والثاني يقيم دورات تدريبية للشباب في الكمبيوتر والحساب الذهني والتمريض واللغات بأسعار رمزية جداً.

أصداء إعلامية

الأهداف الإنسانية والسامية التي يحملها "بيت الشرق للتراث" و"بيت الإبداع"، جعلتهما محطّ أنظار العديد من وسائل الإعلام المحلية والعربية وحتى الصينية، فكانت هناك تقارير وريبورتاجات وإعجاب كبير من سيدات أعمال صينيات تواصلن مع أصحاب المهن من أجل الإنتاج، بعد نشر برنامج صباح الخير من سورية إلى الصين. وقد تمنت صاحبة المشروع أن تلقى أعمال البيت اهتماماً أكبر من قبل الجهات الرسمية، خاصة وأن الإقبال على شراء القطع المصنوعة يدوياً في كثير من الحالات، هو نوع من الرفاهية التي لا يمكن للكثيرين تحمل تكاليفها.

رؤية

كان لحرفيي "بيت الشرق للتراث" رؤية، أجمعوا فيها على أن أسباب تراجع حرفهم اليدوية، يعود إلى غلاء أسعار المواد الأولية، وصعوبات التسويق، وعدم وجود اهتمام كافٍ من قبل الجهات المعنية، مع أنه من الضروري احتضانها والحفاظ عليها كجزء هام من التاريخ الدمشقي.