دائماً ما شكّلت الأغنية الشعبية في منطقة "جبل العرب" حالةً إبداعيةً في الحياة الفنية، وذلك وفق عناصرها الثلاثة اللحن والكلمة والأداء، فمنذ أكثر من قرنين شهد الجبل تجارب متنوعة في مجال الأغنية الشعبية، ولعل المساءلات التي حملت العديد من الباحثين على تحديد مسار الأغنية وخصوصيتها في جبل العرب منحتها صبغةً خاصةً تعتمد بالدرجة الأولى على اللهجة ومخارج الحروف والمد الصوتي والأداء، ثم طبيعة اللحن المنسجم مع البيئة الجغرافية، حيث بدأ الأدب الشعبي يأخذ طريقه إلى الساحة الثقافية المحلية من خلال الوافدين من المناطق المجاورة، من "لبنان" والباديتين "الأردنية والعراقية".

شعراء وعازفون

يقول الباحث "سلمان البدعيش" لموقع "مدوّنة وطن" eSyria في لقاء معه بتاريخ 9 تشرين الثاني 2021: «حسب المراجع التاريخية فقد شهدت نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، انطلاق تدوين الأدب الشعبي والكلمة المغناة، مع وصول الشاعر "أسعد نصار" إلى الجبل، فالأشعار وأنماطها التي استقدمها كانت زجلية ذات طابع غنائي، لتبدأ من بعدها الأشعار الروحانية الواقعية باللهجة المحلية، على يد الشيخ "قسام الحناوي" ثم الشاعر "شبلي الأطرش"، ثم بالأدب الشعبي على يد الشاعر "إسماعيل العبد الله"، وهؤلاء وغيرهم وضعوا أسس ربط الكلمة بالأداء الغنائي، مثل الحداء والجوفيات والشروقيات بأنواعها المختلفة، وطوروا في الجمل الشعرية، وهناك رديف من المبدعين الذين أجادوا العزف على آلات موسيقية كالربابة مثلاً أمثال "أحمد مكنا، وذياب حماد، ونواف أبو شهدا، وصابر معروف" والعديد غيرهم، وكذلك من العازفين على آلة المجوز التي استخدمت مع أغاني الحداء»..

منذ قرن والناس تردد موال "يا ديرتي مالك علينا لوم"، وصولاً إلى أغاني الراحلين "فهد بلان" الأخيرة "سهل حوران وغالي علينا يا جبل" و"فوزي عليوي" واليوم "داوود رضوان" وبألحان "سعدو الذيب" وغيرهم من الملحنين، وتبقى للأغنية الشعبية في جبل العرب هويتها الخاصة بها في كلماتها وألحانها وأدائها، وهي دائماً تلبس حليّة خاصة بها تعرف عن أقرانها في الجغرافيا "السورية" بجمال خاص من حيث التعبير والوصف والتطريب، علماً بأن الأصوات الجبلية لها هوية بقوتها ومساحتها الواسعة، وتحتل المراتب المتقدمة لقدرتها على إيصال الفكرة والرؤية دون استخدام "الفالستور" او الاستعارة الصوتية

مع "فريد" و"أسمهان"

وكان لتطوير الأغنية الشعبية -حسب "البدعيش"- «دورٌ مهمٌ في توظيف ألحان العتابا، والدلعونا، ويا هويدلك، وغيرها، في خدمة البيئة الجبلية، مع ما تتميز به طبيعة واكتساب الأصوات من صفاء خاص بها، وهو الأمر الذي بدأ مع المطربة الراحلة "أسمهان" وشقيقها "فريد الأطرش"، وهناك ثلة من الموسيقيين أمثال "فؤاد دويعر" وغيره، ليأتي في منتصف الخمسينيات مطرب الرجولة "فهد بلان" بأغانيه المعروفة مستخدماً تراث الجبل ضمن قائمة أغانيه الشعبية، ثم جاء مطربون وملحنون مثل المطرب "داوود رضوان"، والمطرب والملحن "فوزي عليوي" حيث أثرى المكتبة الفنية بألحان تراثية وشعبية صبغت بطابع الجبل مثل أغانيه "وأني لروح شميل، لا كتب ورق، وطولت الغيبة علينا، ونحن أجيال الشبيبة" ومئات الألحان الأخرى، لتأتي أصوات نسائية درسن في المعهد العالي للموسيقا أمثال "لبانة القنطار، وغادة حرب، وميس حرب، ورشا رزق" فانتعشت الحركة الفنية بمجموعة من الأصوات الشابة».

الأستاذ سلمان البدعيش

خصوصيةُ الأغنية الجبليّة

الموسيقي يحيى رجب

يشير الموسيقي "يحيى رجب" مدير معهد الموسيقا في "السويداء" بالقول: «إن طبيعة الجملة اللحنية للأغنية في جبل العرب لها خصوصيتها، فهي وإن جاءت ضمن قوالب تأليف متفق عليها عربياً في المذهب وفي "الكوبليه" والأغصان، ولكن طبيعة اللحن لها خصوصيتها، فهي مقسومة إلى أقسام منها الحزين والوجداني والوطني والاجتماعي، وبالتالي تميز الأصوات العريضة القوية القادرة على التنقل بين الطبقات الصوتية بأريحية أتت من طبيعة الحياة الجبلية وصفاء ونقاء المناخ، خاصة في أغاني المواسم الزراعية والمناسبات الاجتماعية، و من مخارج الحروف السليمة وتكامل الزمن الموسيقي في الأداء، وبالتالي نرى كيف استطاع كل من "أسمهان وفريد الأطرش وفهد بلان" فرض أنفسهم بأصواتهم على الحياة الفنية عربياً وعالمياً، وبالتالي فإن الجملة اللحنية تحمل أبعاداً متنوعة أهمها ارتباطها بالمكان، والتنوع المقامي والمد الصوتي، إذ قل ما تجد أغنية لا تستخدم بها "الموالات" أو المد الصوتي الحر، وأخيراً تنوع في التحولات بين لوازم الأغنية».

حليّةٌ خاصة

ويضيف : «منذ قرن والناس تردد موال "يا ديرتي مالك علينا لوم"، وصولاً إلى أغاني الراحلين "فهد بلان" الأخيرة "سهل حوران وغالي علينا يا جبل" و"فوزي عليوي" واليوم "داوود رضوان" وبألحان "سعدو الذيب" وغيرهم من الملحنين، وتبقى للأغنية الشعبية في جبل العرب هويتها الخاصة بها في كلماتها وألحانها وأدائها، وهي دائماً تلبس حليّة خاصة بها تعرف عن أقرانها في الجغرافيا "السورية" بجمال خاص من حيث التعبير والوصف والتطريب، علماً بأن الأصوات الجبلية لها هوية بقوتها ومساحتها الواسعة، وتحتل المراتب المتقدمة لقدرتها على إيصال الفكرة والرؤية دون استخدام "الفالستور" او الاستعارة الصوتية».

فهد بلان وسعدو الذيب