في قلب مدينة "دير عطية"، في منطقة "القلمون" بـ"ريف دمشق"، يقع "بيت التراث" حيث آثر المهندس "نزار الحرفي" ابن المدينة، أن يقدّم لأهل المنطقة مركزاً تراثياً سياحياً يضيف إلى مدينته موقعاً مميزاً يضاف إلى معالمها الجميلة، وهو الذي أخذ على عاتقه مهمة ترميم العقارات القديمة فباتت كالمتاحف والشرقيات، وحوّلها إلى بقعة ضوء اجتزأ من الحاضر بعض تفاصيلها ليضيف الى الماضي العريق بعض اللمسات.

وضمن قالبين هندسيين لامسا عمارته وديكوراته الداخلية، ترجم "الحرفي" أحلامه على أرض الواقع، واختصر المسافة بين ذاك الماضي وهذا الحاضر، ليستحدث له مكاناً في حضن درّة القلمون "دير عطية" أطلق عليه اسم "بيت التراث".

بيتٌ للتراث

للوصول إلى "بيت التراث" يستغرق الوقت نحو الساعة إذا ما كنت في العاصمة "دمشق" فالطريق إلى منطقة القلمون الغربي وبالتحديد إلى مدينة "دير عطية" -التي لم تحظَ بلقب درّة القلمون جذافاً، فهي تحاكي الماضي بكل عبقه والمستقبل بكل سحره-، حوالي 90 كيلومتراً عن العاصمة، وعند وصولك إلى مزارع الكروم الواقعة على تلة مشرفة على المدينة، ستعرف تلقائياً أنك قصدت المكان المناسب "بيت التراث" لتمضية أيام عطلة لا تشبه غيرها، إلا بمعالمها الطبيعية المتمثّلة بكل ما يحمله الماضي من جمال في جعبته. وقد برع المهندس "نزار الحرفي" في الحفاظ على ما تركه التاريخ خلفه، فكان له من اسمه (الحرفي) نصيب، وهو الذي حوّل بيته الى مجمع تراثي لمّ شمل التراث فيه فكان نواة مهمة لترميم الكثير من البيوت القديمة التراثية، أعاد لها الروح وأضحت همزة وصل بين الماضي والحاضر.

يعبق بالماضي

هندسةُ التراث

الضيوف في البيت التراثي

يقول المهندس "الحرفي" في حديثه لـ(مدوّنة وطن): "الهدف من بناء هذا البيت التراثي وترميم البيوت القديمة هو الحفاظ على التراث العمراني للبيوت في" القلمون" عامة وفي" دير عطية" على وجه الخصوص، إضافة للمعالم الأخرى كالحمامات والأبراج والمساجد والأسواق القديمة، من خلال أدوات وتجهيزات لأثاث وديكورات أقسام "بيت التراث" وغيره من البيوت التراثية التي جرى ويجري ترميمها، حيث تمت الاستعانة بروح القرية "السورية" من ناحية وبحداثة الطابع الشرقي من ناحية ثانية".

تطالعك عند باب المدخل للبيت التراثي أقواس وقناطر تدمرية وكأنك في "تدمر عروس الصحراء"، تهبط بعض الدرجات الحجرية النافذة إلى حضن البيت لتبدأ رحلة ممزوجة بالحداثة والعراقة ودفء الأجواء التراثية، حديقة غنّاء بالزهور والأشجار المعمّرة والتاريخية، حيث تتوزع الطاولات والكراسي لتأمين جلسات مستقلة، أو الجلسة التي تقدمها لك في مبناها المؤلف من طابقين.

يضيف "الحرفي": "لقد استوحيت هندسة المنزل من العمارة "السورية" القديمة، وجهزت الغرف بأثاث القرية البسيط والأنيق معاً، حتى أنه جرى نقل ما كانت تحفل به البيوت في البادية "السورية التدمرية" إلى" بيت التراث".

انتماءٌ وأصالة

حاول المهندس" الحرفي" أن يزرع في كل ركن من أركان "بيت التراث" أو غيره من البيوت التي قام بترميهما الشغف والحب الذي يملكه حين قرر تحقيق حلمه بعيداً عند هندسة الميكانيك التي درسها، فاختار التراث والفن حرفة لا يستغني عنهما .

يقول الحرفي: "نسعى قدر المستطاع ليكون "بيت التراث" منارة رائدة في عصر تجتاحه الكثير من الحروب الثقافية والفكرية والتاريخية، فربطُ الذاكرةِ بالحاضر يخلق فرصة حوار وانتماء وأصالة لمجتمعاتنا، لأن التراث مخزون يجب إنعاشه فضلاً عن أننا نقدم للزائر فرصة قراءة الماضي الجميل وإن كان فقيراً، فقائمة البيوت التراثية وما تحمله ستكون حكاية يرويها الأب لعائلته، حتى الأريكة الخشبية تجذبك وساداتها المغلّفة بأشغال يدوية من الصوف، فبهذه الطريقة نزرع بذرة تقارب بين زمنين وجيلين في بيت تراثي يحفظها".

واقعٌ سياحيّ

خلال زيارته الودية الى "بيت التراث" يقول الدكتور "فاروق العادلي" وزير البيئة الأسبق لــ(مدوّنة وطن) وهو يثني على أعمال المهندس "نزار الحرفي": "عبر مشروع تأهيل ما تبقى من بيوت المدينة تخلق "دير عطية" واقعاً سياحياً جديداً، ينعش مدينة قطعت أشواطاً نحو الانفتاح على الاقتصاد السياحي، ويؤسس لحراك ثقافي فكري سياحي من نوع آخر، فبدلاً من أن يقصد السائح الريف السوري في البادية ليتعرف على بيوتها القديمة أو يزور "تدمر" الجميلة، يمكن لهذه البلدة أو تلك أن تشرع في إعداد مشروع يحاكي واقعها".

فيما يؤكد الدكتور "سائد الناظر" نائب رئيس جامعة القلمون الخاصة في حديثه لــ(مدوّنة وطن)، أن "بيت التراث"، وغيره من المواقع الكائنة في مدينة "دير عطية" حظيت بجهود الترميم، بوصفها مواقع مختلفة الأهداف، يجمعها أنها تمثل رموزاً شامخة لماضٍ أصيل عبق، وبالاستمرارية في عمليات الترميم وتكثيفها يكتمل نسيج "دير عطية" العمراني التراثي.

تكريم حرفي

ولا يتردد السيد "محمد عبدو الخطيب" رئيس اتحاد الجمعيات الحرفية في "ريف دمشق" وهو الذي جاء من "دمشق" ليطّلع على "بيت التراث" حاملاً معه شهادة تكريم للمهندس "نزار" بالقول لــ(مدوّنة وطن) : "الهدف من وراء ترميم البيوت القديمة، حماية إرث المدن "السورية"، هذا الإرث الذي بات يتهاوى أمام أفواه الجرافات، ويتلاشى مع كل ما هو جميل، نسعى لحفظ قيمنا وعاداتنا، وهذه المشاريع يظنها البعض خاسرة، ولكن لو فكرنا أبعد من الدائرة، نجد أننا في عصر يتوق للتراث، وهذه المشاريع أكثر ربحية واستمرارية من غيرها، ولكن لا يوجد من يفكر هكذا، الكل يفكر بالربح المالي الكبير، وهذه مسؤولية الجهات المعنية التي عليها أن تقف اليوم في وجه هدم البيوت التراثية".

ويضيف" الخطيب": "لقد بذلت الحكومة "السورية" جهوداً كبيرة للحفاظ على مباني هذه المدينة وتلك، حيث تم ترميم المئات من البيوت التراثية واستثمارها في العملية السياحية، وشمل ذلك (القلاع – المباني السكنية والمساجد) فالمنطقة حظيت باهتمام رسمي خلال السنوات الماضية إضافة إلى مشاريع عدة لترميم مبانيها التاريخية لتعريف الجيل الجديد على ماضيه، ومعه يتعرف السياح على منطقة "القلمون" العريقة، حيث تحظى مدينة "دير عطية" اليوم بمكانة تراثية وتاريخية مميزة، تؤهلها لأن تكون الوجهة الأولى لمحبي التعرف على التراث المحلي، وهذه المكانة لم تأتِ بمحض الصدفة، بل أهّلها لذلك قاعدة تاريخية وجهود جمة جعلتها في الطليعة، ومن بين أبرز تلك الجهود عمليات الترميم، التي تبناها اليوم المهندس "الحرفي" وساندها المجتمع المحلي، وطالت حتى الآن العديد من البيوت القديمة التي عمل على تجديدها والحفاظ على طابعها التراثي، لتكون نافذة على شواهد عمرانية في حقبة مضت".

بيتُ القصيد

بين زخرفة هنا وإرساء دعائم عمود يحمل قناطر هناك، وخوابي الفخار المملوءة بزيت الزيتون بالأمس القريب، وبين ضجيج وصخب المدن التي أكل الإسمنت بيوتها القديمة، تكون لزيارة البيوت التراثية المتجددة في منطقة "القلمون" نكهة عنوانها المحافظة على التراث المعماري في مواجهة حرب الإسمنت التي تهدف لإلغاء التاريخ من القاموس بلسان حرب الإسمنت الناعمة الجارية على قدم وساق… فهل يكون "بيت التراث" وغيره من البيوت التي يتم ترميمها بداية تغيير نحو الحفاظ على الهوية التراثية لهذه المدينة وغيرها من المدن الضائعة اليوم في الخرسانة الإسمنتية؟.