منذ إن انطلقت السينما وأصبحت فناً، بدأت تستفيد من الفنون كلها: المسرح والموسيقا والفنون التشكيلية، ولكنها بلغت أوج جمالها، عندما بدأت تستقي من الرواية، لاسيما الناجحة منها، والتي تضمنت الحدث والسرد والحوار، كرواية "قصة مدينتين" للكاتتب "تشارلز ديكنز" الصادرة عام 1859 والتي جذبت أنظار العديد من المخرجين، لتتحول إلى فيلم، وتشرع شخوصها بالتحرك أمام عدسات عدة مخرجين. وكان أول تجسيد سينمائي لها عام 1935 للمخرج "جاك كودي"، وآخر تجسيد عام 1980 للمخرج "جيم هارد".

ربما تكون أجمل الأفلام العالمية التي نالت الجوائز، هي التي أخذت من الروايات العالمية، مثل: "ذهب مع الريح"، "آنا كارنينا"، "شيفرة دافنشي"، "الشيخ والبحر"، "قصر الشوق"، "بين القصرين"، وغيرها، والتي اقتبستها السينما من الأدب، لأنها غنية بمواقفها ودلالاتها. وأما السينما السورية فهي من أولى الحركات السينمائية في المنطقة العربية؛ حيث عرف بلدنا هذا الفن العظيم عام 1908 من خلال عروض في "حلب". وكان أول إنتاج سينمائي عام 1927 على يد "رشيد جلال" في فيلم عنوانه "المتهم البريء", ةلكن السينما الناشئة لم تأخذ شيئاً من الفن الروائي، إلا بعد تأسيس المؤسسة العامة للسينما بتسع سنوات؛ حيث أنتجت المؤسسة فيلم "المخدوعون" عن رواية للفلسطيني "غسان كنفاني"، لتبدأ مسيرة السينما والرواية في سورية. وبدأت المؤسسة في أغلب أعمالها بالاعتماد على الرواية.

السينما السورية والرواية

وهنا يسرد الناقد "نضال قوشحة" رئيس تحرير مجلة "آفاق سينمائية" لـ "مدونة وطن "esyria قائلاً بهذا الخصوص: "كانت الرواية في السينما السورية إحدى المكامن المهمة لتقديم أفكار ضمن أفلام كان معظمها أفلاماً روائية طويلة، فمثلاً فيلم "المخدوعون" إنتاج 1974 للمخرج المصري "توفيق الصالح" المأخوذ عن رواية "رجال في الشمس"، وفيلم "الفهد" الشهير للمخرج "نبيل المالح"، والذي حاز على جوائز كثيرة، فهو مأخوذ من رواية "حيدر حيدر" التي تحمل الاسم نفسه. لاحقاً استمر هذا السياق بمواضيع روائية، فرأينا فيلم ثلاثية "العار" عن مجموعة قصصية للفنان "فاتح المدرّس"، وأيضاً فقد تحولت مسرحية "رأس مملوك جابر" للكاتب "سعدالله ونوس" إلى فيلم "المغامرة"، الذي أخرجه "محمد شاهين".

ملصق الشراع والعاصفة

بقيت الرواية مادة دسمة وأساسية لأفلام المؤسسة العامة للسينما، وجذبت بعض الشركات الخاصة، التي قامت بتجارب خجولة وغير مرضية كفيلم "باسمة بين الدموع" للروائي الكبير "عبد السلام العجيلي"، الذي لم يلقَ نجاحاً ملحوظاً. وفي المقابل، نجحت المؤسسة في هذا المجال؛ حيث استمرت بتقديم الكثير من الروايات على يد كبار المخرجين السوريين.وعلى سبيل المثال، تحولت الرواية القصيرة للكاتب "ممدوح عزام"، والتي تحمل عنوان "مع ناجي الموت"، إلى فيلم بعنوان "اللجاة" وقام بإخراجه المخرج "رياض شيّا". ويعد "سمير ذكرى" أحد الأسماء السينمائية المهمة، الذي تعامل مع الرواية في أول أفلامه "حادثة نصف متر"، وهي مأخوذة عن رواية "نصف متر" للمصري "صبري موسى". وهناك أيضاً رواية "تراب الغرباء" للكاتب "فيصل خرتش" الذي كتبها خصيصاً للسينما، وأنتجت سينمائياً بالاسم نفسه. وتحولت "الرواية المستحيلة" للروائية "غادة السمان" إلى فيلم بعنوان "حراس الصمت".

يتابع "قوشحة" حديثه: "عندما نتحدث عن الرواية في السينما السورية، لابد أن نتحدث عن أدب الروائي "حنا مينة"، إذ إن خمساً من رواياته تحولت إلى أفلام سينمائية، كانت البداية مع فيلم "اليازرلي" عام 1974 ومن إخراج "قيس الزبيدي"، و"الشمس في يوم غائم" من إخراج "محمد شاهين"، و"آه يا بحر" عن رواية "الدقل"، و"الشراع والعاصفة" الذي أخرجه "غسان شميط".

ملصق فيلم الشمس في يوم غائم

القراءة عدوتنا

استطاعت السينما التعامل مع النصوص الروائية وحكاياتها الخيالية، فقد ولدت الرواية قبل السينما فحولتها إلى نص "سيناريو" ومن ثم إلى شريط مرئي يقوم على الحركة والتفاعل الحسي والبصري، وهي بذلك اختزلت النص الروائي الذي تعب مؤلفه زمناً طويلاً لإنتاجه، ببعض الساعات والدقائق. ورغم هذا الاختزال وحذف حتى بعض الشخوص، فإن البعض يرى الأمر إيجابياً، لأنه حقق انتشاراً للرواية بشكل أوسع. وفي هذا الإطار يقول الروائي "سهيل الذيب": "في البدء، لا بد من التذكير بأننا شعب جعل من القراءة عدوه اللدود، فنأى عنها، معتبراً أنها لا تطعم خبزاً. لذلك اضمحلت الثقافة، وانتشر الجهل، فقامت المؤسسات السينمائية بدور إيجابي في هذا المجال؛ حيث حولت بعض الأعمال الروائية اللافتة إلى أفلام أو مسلسلات، كوسيلة من وسائل التثقيف السهلة والممتعة، إضافة إلى النشر والتعريف بالعمل الروائي والقصصي. وإن اجتزأ المخرج القليل أو الكثير من العمل الأدبي طبقاً لرؤاه، يبقى للفيلم الروائي السينمائي دوره في التعريف بالكاتب وبمنجزه. ولا يسعني هنا إلا أن أذكر بعض الأعمال الروائية التي لاقت الصدى الإيجالي والاستحسان حين تحولت إلى أفلام، كروايتي "بقايا صور" و"الشمس في يوم غائم" للروائي "حنا مينة"، ومسلسل "أسعد الوراق" عن قصة "الله والفقر" للكاتب "صدقي إسماعيل" وغيرها. ولا شك أن الرواية ألهمت السينما والمسرح والتلفاز، واستند مخرجون كبار إليها في نقل رؤاها ورؤاهم إلى المشاهد".

ويعتب "الذيب" على مخرجينا لعدم متابعتهم للساحة الروائية السورية، إذ كان من الممكن أن تتحول كثير من الروايات السورية إلى أفلام.

الاختلاف في المضمون

تختلف الرواية عن السينما في عرض المضمون فحسب، حيث تعبّر الرواية بالكلمة، أما السينما فلها الصورة كوسيلة للتعبير. وفي هذا السياق يقول الكاتب والشاعر "نضال الماغوط": "أرى أن هذه العلاقة عضوية بالنسبة إلى السينما، إذ لا يوجد فيلم حتى لو غاب الحدث إلا وهو روائي حتماً، بينما يمكن للرواية أن تظل طليقة يتخيل القارئ أحداثها وشخوصها بشكل مختلف عن الآخرين، ولكن لا وجود لفيلم روائي من دون عمل روائي، ولا أستطيع أن أحكم أيهما أفضل الرواية أم السينما، أو كما يقال إن السينما تقيّد العمل الروائي، فهناك أعمال سينمائية تعطي عمقاً للرواية وتضيف إليها أبعاداً جمالية غير موجودة فيها فتحولها إلى عمل فني مهم".

ويبرهن "الماغوط" على كلامه بأمثلة؛ حيث يتابع: "كما حدث في فيلم "الفهد" الذي أخرجه "نبيل المالح" عن رواية "حيدر حيدر" وحوله إلى علامة فارقة في السينما السورية، فتعابير وجه الفنان "أديب قدورة" صارت تدرّس في المعاهد السينمائية. ويمكن ألا يضيف الفيلم شيئاً مهماً للرواية، كما في فيلم "بقايا صور" المأخوذ عن رواية "حنا مينه" للمخرج "نبيل المالح"، وبرأيي فإن العمل أقل فنية من الرواية، وهذا ما استفاد منه المخرج "محمد ملص" فنياً في فيلمه الشهير "أحلام المدينة".

الجمع بين الفنون

وتستمر الرواية بجذب السينما عالمياً، وتبقى هذه العلاقة التبادلية بين الفنين، وتقوم السينما بإيصال الرواية إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس، ويستفيد المعنيون في السينما من الرواية لتقديم صورة بصرية جميلة، كما يقول الناقد السينمائي "مارشال مكلوهان": " يرتبط الفيلم ارتباطاً وثيقاً بعالم الكتب، ومن هنا فإن الصورة في الفيلم تحقق، بالنسبة إلى المخرج السينمائي، الغرض نفسه الذي تحققه المفردة اللغوية للكاتب".

وتبقى السينما ذلك الفن العجيب الذي يجمع المتلقي في صالة هو من ذهب إليها بكامل إرادته وشوقه وحبه لهذه الشاشة العملاقة، التي تحرك الشخوص وكأنهم أشخاص يحاورون الحضور ويناقشونهم ويؤثرون فيهم. واليوم تجمع السينما بين الفنون كلها، محققة العمل الفني المتسق الشامل حسب قول الكاتب والناقد المصري د. "ثروت عكاشة".