لم تستطع الممرضة "مريم مزعبر" المعروفة بين أوساط مجتمعها القلموني بــ"عزيزة الممرضة"، -وهي أقدم ممرضة ممارسة لمهنتها الإنسانية في منطقة "القلمون"-، أن تخفي دمعتها وهي تتحدث عن سنوات عملها في المشفى "الدنماركي" سابقاً و"القلمون" حالياً، بمناسبة مرور مئة عام على إنشاء المشفى الذي عدّه بعض المؤرخين من أقدم المشافي في "سورية"، حيث تم إنشاؤه على يد بعثة تبشيرية "دنماركية" عام 1920، وعرف آنذاك بين عامة الناس بالمشفى "الدنماركي"، وكان يضمُّ طاقماً طبياً وتمريضاً دنماركياً، بالإضافة لبعض العاملين والعاملات السوريين وقد تطور المشفى مع مرور الزمن بدعم من الحكومات السورية المتعاقبة وبتبرعات أهالي مدينة "النبك".

شاهدة عصر

الممرضة (عزيزة مزعبر) التي ولدت في "دير عطية" عام 1932، وأمضت ما يقارب أربعة عقود في المشفى "الدنماركي" في "النبك"، كانت -حسب شهادة كل من عرفها- ملء السمع والبصر، طموحة وأنموذجاً في الجد والاجتهاد، ومثالاً يحتذى في الوفاء، لم تتوانَ يوماً عن أداء مهامها وواجباتها على مستوى المشفى ومشافي المنطقة وهي تعدُّ أقدم ممرضة ورقماً صعباً في مهنتها الإنسانية.

تتحدث الممرضة عزيزة لـ(مدوّنة وطن)، وهي تحمل في يدها صوراً قديمة ترتدي فيها لباس التمريض وأخرى إلى جانب (الطاقم الطبي للمشفى ومن بينهم الدكتور الدنماركي بنسلف مدير المشفى ورئيسة التمريض مس هانسن آنذاك)، فتقول : "بدأت العمل في المشفى "الدنماركي" بعدما نلت شهادة التمريض بعد دراسة أربع سنوات في مدرسة التمريض في مدينة "النبك" والتي تعد أقدم مدرسة لتعليم شؤون التمريض في"سورية"، كانت الدراسة وقتها باللغة الإنكليزية، ما أكسبني مهارة خاصة لإتقان اللغة الأجنبية محادثة وكتابة، وساعدني كثيراً في بدايات عملي بالمشفى".

صورة للمشفى أخذت عام 1945

تفاصيل عمل

حديقة المشفى

بدأت الممرضة "عزيزة" العمل في المشفى منذ عام 1951، مارست خلال سنوات عملها كل أعمال التمريض، فدخلت غرفة العمليات وكانت مسؤولة عن إعدادها وفقاً لمواصفات الجراحين، وإعداد المرضى للراحة، وعملت في أقسام العناية وفي مساعدة الأطباء فكانت وزميلاتها يقمن بالمناوبات الليلة حسب ما هو مقرر، كما عملت أيضاً كممرضة إغاثة عند الحاجة، ونجحت في عملها كممرضة متفانية وكانت مصدراً رائعاً لإلهام زملائها ومجتمعها، إلى أن تقاعدت عام 1992 بعدما بلغت سن الـ60، واليوم هي في صحة جيدة بفضل ممارستها لرياضة المشي التي انعكست إيجاباً على صحتها.

تشير "عزيزة" في حديثها إلى أنّ المشفى كان يضمُّ ست غرف بالإضافة الى غرفة العمليات، والغرف الست كانت مخصصة للنساء والرجال والأطفال، وكانت كل غرفة تتسع لثمانية أسرة، فيما كان عدد المراجعين اليومي للمشفى آنذاك يقدر بــ30 مريضاً، منهم من تتم معاينته ووصف الدواء اللازم له، ومنهم من تستدعي حالته إدخاله للمشفى بقصد العلاج وكانت أجرة السرير في اليوم مع الدواء 5 ليرات سورية آنذاك.

وتضيف الممرضة المتقاعدة التي كانت تتنقل بين غرف منزلها العربي الأنيق باحثة عن صورها (أيام زمان) : "كان راتبي في تلك الأيام حوالي 70 ليرة سورية، وأجمل ما كان في ذاك الوقت العلاقة الصادقة والمحبة السائدة بين جميع العاملين في المشفى -لقد كنا نعيش ونعمل كأسرة واحدة-، حتى أن الاجتماعات التي تعقد في المشفى كان يحضرها كل العاملين في المشفى.. إعانات كثيرة كانت تأتي للمشفى كما اليوم من أهالي مدينة النبك".

عودة الروح للمشفى

الوصول الى المشفى "الدنماركي" اليوم ليس صعباً وهو الذي بات (أشهر من نار على علم) كما يقول المثل الدارج، وذلك بفضل ما يقدمه من خدمات طبية وصحية لأبناء المنطقة، وخاصة أنه يتوضع في الجهة الغربية من مدينة "النبك"، فيطل على الطريق الدولي بين "حمص – دمشق"، ومن الجهة الشرقية يطل على مدينة" النبك" التي يتصل بها عبر طرق مملوءة بالحفر والمطبات وكل هذا كان محفزاً لإدارة المشفى والهيئة العامة لمشافي "القلمون"، التي اتخذت من المشفى "الدنماركي" مقراً لمكاتبها من أجل تطوير وتحديث أقدم مشفى في "سورية" ليصبح اليوم واحداً من المشافي الكبيرة والمهمة من حيث الإمكانات الطبية التي وفرها المجتمع المحلي في مدينة "النبك" بالتعاون مع إدارة المشفى.

يقول مدير المشفى الدكتور "عبد الله عبد الله" في حديثه لــ(مدوّنة وطن)": "لقد ظل المشفى لفترة طويلة تحت رعاية البعثة التبشيرية "الدنماركية"، وفي أواخر الستينيات تم تأميمه ليصبح مشفى حكومياً عاماً، ونظراً للحاجة ولمواكبة المسيرة التطويرية التي تشهدها البلاد، جرت عدة توسيعات للمشفى أهمها عام 1995 حيث تم إنشاء بناء جديد كلياً، وتم تحويل المشفى القديم لقسم النسائية والتوليد بشكل دائم، كما تمت إضافة أقسام وملحقات جديدة إلى المشفى الذي بات يطلق عليه (مشفى القلمون)، وهو يضم حوالي 200 سرير وأهم أقسامه: الإسعاف والعناية، وشعبة الجراحة العامة وشعبة الداخلية، ووحدة العناية المشددة والكلية الصناعية والحواضن والنسائية والتوليد والعمليات والأشعة والمخبر والأطفال، وتم افتتاحه في عام 2014 بالإضافة إلى الأقسام الإدارية والخدمية، كما يعد المشفى مكاناً للتدريب العملي لطلاب مدرسة التمريض وطلاب المعهد التقاني الطبي في النبك".

طراز معماري

ويتحدث الدكتور" عبد الله" بإسهاب عن تاريخ المشفى مستعيناً ببعض المراجع الموجودة في مكتبة المشفى للباحثّين" عماد الأرمشي" ، و"هلا قصقص" ‏اللذين قدما أبحاثاً عن المشفى، ويقول: "المشفى من أقدم وأهم المشافي في "سورية"، نظراً لأهمية موقعه الاستراتيجي، فقد كان نقطة عبور من "دمشق" إلى مدن الشمال السوري، والمشفى متفرد بطراز خاص يعكس الطابع المحلي لأبنية المنطقة، ويعكس في واجهاته ومواد بنائه الطراز الريفي الخاص بأبنية "القلمون" ، فالبناء الرئيسي ما يزال قائماً حتى اليوم، وهو يتألف من طابقين، الأول (تحت أرضي) فيه ست غرف، ومجموعة خدمات، وطابق أرضي يحتوي على /13/ غرفة وجناح ومطبخ ودورات مياه، تتوسطه حديقة مشجرة".

بالعمل الشعبي

الباحث موفق بحبوح من أهالي مدينة" النبك" أعدّ كتاباً قيد الطباعة بعنوان "النبك في ثنايا القرن العشرين" يقول في حديثه لــ(مدوّنة وطن): "في عام 1987 بعد أن أصبح المشفى "الدنماركي" آيلاً للسقوط شكلت لجنة من أهالي مدينة "النبك" لجمع التبرعات بدعم من المغتربين من أهالي المدينة لبناء مشفى جديد وترميم المشفى القديم، ونجحت اللجنة بالتعاون مع الأهالي ببناء مشفى جديد عام 1995، وأعادت الروح للمشفى القديم من خلال إجراء الكثير من عمليات الترميم للمحافظة على روح المشفى والمكانة التاريخية، وعدّ هذا الإنجاز من أكبر مشاريع العمل الشعبي والخدمي في "سورية" حينها.