للمجتمع القلموني في ريف دمشق مواسم زراعية عدة على مدار السنة، كل منها يمثل عرساً حقيقياً له طقوسه وأدواته التي تميزه، لكن "شطاح العنب" يبقى الأبرز والأكثر شهرة، فهو يعد موسماً للفرح تتناقله الأجيال ( القلمونية ) منذ أيام السيدة "خاتون" قرينة أحد قادة "صلاح الدين الأيوبي" التي سكنت "دير عطية" خلال تلك الحقبة، ولا تزال طقوسه مستمرة حتى اليوم، لما فيها من أصالة تذكي بالأيام الخوالي والزمن الجميل.

لمة عيلة

يستيقظ المزارع "عزو السوسو" أبو أحمد عند صلاة الفجر، يصلي ومن ثم يرتدي لباس العمل، ويستقل سيارته الزراعية الصغيرة ( بيك آب ) يضع زوجته بجانبه وفي طريقه يمر على أخيه محمد خير "أبو جبران " الذي أخبر أشقاءه وجميع أفراد العائلة عن طريق " الواتس آب " بأن يوم الجمعة مخصص لــ "شطاح العنب " فيأتي "محمود" أبو يامن من العاصمة متخلياً قليلاً عن أناقته المعهودة، فيرتدي" الشماخ " وثياب العمل والكل الى خارج البلدة حيث كروم العنب.. وما أن يصلوا إلى المكان المقصود، حتى يتم توزيع المهام على كل فرد من أفراد العائلة.

وما بين هذا المشهد العائلي وذاك، يبدأ موسم قطاف العنب و"شطحه" إذا صح التعبير في معظم قرى القلمون الغربي، إلا أن الحديث عنه وما يرافقه من أخبار يبقى قائماً في الموسم وخارجه، ولا سيما أنه يحتل مساحة لا يطمسها مرور الأيام في ذاكرة أهالي القلمون، وإن كانت الآلة والآلية قد حجبت بعض الصور التراثية التي طالما أضفت على الموسم طابع الخير والبركة والسلام.

من عمليات تجفيف العنب

شهر أيلول

مصدر دخل... وفرح

يقول السيد "محمد خير السوسو" ( أبو جبران) أحد المهتمين بتوثيق تراث دير عطية والقلمون في حديثه لمدوّنة وطن: " لا يكاد ينتصف أيلول حتى يهب الفلاحون في القلمون كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً إلى حقول العنب لقطف الثمار ، نضج أم لم ينضج، بقصد ( شطحه) زبيباً فيقومون باكراً ويحملون ماء (القلي) المغلي، وأطباقاً من النحاس، وخبزاً وجبناً وبصلاً وسمناً وبرغلاً، وصناديق من الخشب وغير ذلك ويذهبون إلى كرومهم وهناك يشرعون بقطاف "العنب" بعناية واهتمام، وكلهم حذر ألا تضيع حبة من العناقيد على الأرض ، ومن يترك وراءه حبة عنب لا يسلم من التعنيف".

ويتابع" السوسو" حديثه قائلاً :" ما يتم قطفه يجمع كوماً، وهكذا حتى الظهيرة إذ يشتد الحر فيحملون أكوام العنب إلى حيث قاموا بتجهيز وعاء كبير مملوء بماء (القلي) الذي مزج بقليل من زيت الزيتون حتى أصبح أبيض كاللبن فيجلس وراء هذا الوعاء الكبير شخص يقوم بتغطيس العنب كاملاً في هذا الماء، وينبذ كل ورقة من أوراق الكرمة الظاهرة من خلال العنب لأنها تمتص الزيت.. ثم ينتشل العناقيد ﺑﻌﺪ ارتداء اﻟﻘﻔﺎﺯﺍﺕ الجلدية خوفاً على يديه من ماء القلي الكاوي.. ويبعث به إلى شخص آخر فيرصفه هذا على أرض قد مهدت لهذه الغاية فيضع كل عنقود إلى جانب الآخر حتى يتم (شطاح ) العنب المقطوف ويتركونه معرضاً لأشعة الشمس ﻟﻤﺪﺓ ﺗﺼﻞ ﺇﻟﻰ 20 ﻳﻮﻣﺎ ﻟﻜﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﺯﺑﻴﺒﺎ للأكل، ويترك جزء منه لصناعة الدبس".

جميع أفراد العائلة يعملون

صناعة (القلي) محلياً

فيما يشير "محمد سليم عاصي" نائب رئيس الجمعية الفلاحية في مدينة دير عطية في حديثه لــ ( مدونة وطن ) الى طريقة إعداد مادة (القلي) التي تسبق عملية شطح العنب وتغطيسه فيها فيقول : "يتم قطع نبات الشنان وتجفيفه ومن ثم حرقه ونقعه في الماء الساخن وتبريده بعد أن يكون قد تحول لمادة قلوية.. يوضع ﺍﻟﺴﺎﺋﻞ أثناء (شطاح العنب) في وعاء كبير يسمى (جاط) نحاس كبير ويوضع فوقه قليل من زيت الزيتون ويغطس العنب بــ (الجاط) ويتم نشره على ورق "أكياس اسمنت" وغيرها، ويلفت الى أنه في وقتنا الحاضر استغنى كثير من الفلاحين عن هذه الطريقة التي اعتبروها متعبة لهم واستبدلوها بشراء مادة متوفرة في الأسواق تسمى (القلي) فكانت بالنسبة لهم خير بديل ومساعد في شطاح العنب .

ويبين "عاصي" أن شطاح العنب يبدأ أحياناً قبل عيد الصليب الذي يصادف السابع والعشرين من أيلول وهو الموعد المحدد لــ (شطاح العنب) ويقال – والكلام لعاصي – أن حبة العنب في ليلة عيد الصليب تنضج أكثر ويزداد حجمها، وهذه الرواية متوارثة جيلاً عن جيل على حد تعبيره .

تظاهرة تراثية

ويضيف نائب رئيس الجمعية الفلاحية في دير عطية، أن الأسرة الفلاحية في القلمون تنتظر من العام الى العام تظاهرة الفرح هذه لتشترك فيها، ففي هذا الموسم تخلو بيوت الأرياف من أصحابها تقريباً حتى الأطفال الرضع يذهبون الى كروم العنب والبساتين مع أمهاتهم وآبائهم، وينصرف الأولاد والبنات إلى مدارسهم صباحاً ليتوجهوا فور انتهاء الدوام المدرسي كل يوم إلى حيث بقية الأسرة ومن معها من العمال والعاملات بالأجرة للمساعدة في عملية القطاف وجمع المحصول ليعود الجميع الى بيوتهم بعد غروب الشمس.

وعملية جمع العنب مزيج من الغناء والتسلية والمتعة أثناء العمل، فالرجال والأولاد عادة يتسلقون الأشجار أو السلالم هذا في حال كانت أشجار العنب على شكل ( عرائش )، بينما تعمل النساء والفتيات على التقاط وجمع ما يسقط من حبات العنب على الأرض في السلال والأواني البلاستيكية، وغالباً ما تربط المرأة أو الفتاة الأطراف الأمامية من ثوبها الطويل إلى نطاقها "حزامها" لتصبح المقدمة الأمامية للثوب وعاء لجمع محصول العنب .

وحسب قول "عاصي" المعروف في أوساط مجتمعه بـ( أبو عمار ): " غالبا ما يرافق عملية شطاح العنب ترديد الأغاني والأهازيج الشعبية الفلكلورية المتوارثة عبر الأجيال للتغلب على الملل والإجهاد والساعات الطويلة من العمل المتواصل، فيردد الرجال " العتابا " و" الميجانا " و"على دلعونا" و" أبو الزلف "، و" عالروزنة "، وتردد النساء والفتيات الأغاني الخاصة بهن إن كن بعيدات على مسافة من الرجال ومتأخرات عنهم في العمل، كما يمكن للجميع الاستماع الى سرد القصص والحكايات الشعبية التي تحمل معاني البطولة وقيم الشجاعة والكرم والشهامة والتضحية في سبيل الوطن".

ويشير إلى أن أكثر طعام يرافق طقوس شطاح العنب ( الدفين ) وهي عبارة عن أكلة شعبية متعارف عليها في القلمون يتم إعدادها من البرغل واللحم والسمن وتطهى على مواقد الحطب ويعقب ( الدفين ) شواء ( عرانيس ) الذرة ايضاً على نار الحطب الهادئة .

إحصائيات

المهندس" أيمن طباني" رئيس مكتب التخطيط والتعاون الدولي في دائرة زراعة النبك يؤكد في تصريح لــ ( مدونة وطن ) أن قطاع العنب قطاع مهم وحيوي، ويعتمد عليه الكثير من المواطنين بشكل مباشر أو غير مباشر، ويعد استثماراً حيوياً ومن الزراعات الرائدة في منطقة القلمون، وتقدر المساحات المزروعة بالعنب في المنطقة بـ 398 هكتار سقي، فيما يبلغ العدد الكلي للأشجار 253700 شجرة، المثمر منها 250400 شجرة، وتتركز زراعة العنب في مدن دير عطية والنبك وقارة، وتنتج الشجرة وسطياً 5 كغ وقد تراجع الإنتاج هذا العام بسبب قلة الأمطار والجفاف الذي تعرضت له المنطقة، حيث قدر إنتاج الشجرة الواحدة هذا الموسم بــ 2 كغ من العنب، كما قدرت كمية الإنتاج الكلي بــ 1672 طناً يستخدم منها 836 طناً للأكل و 753 طنا لصناعة الدبس الذي ينتج عنها 564 طن دبس بينما العنب الذي يستخدم لإعداد الزبيب يقدر بــ 84 طناً ينتج عنها 20 طن زبيب.

تحت الرقابة

ويوضح "طباني" أن أكثر الأنواع المزروعة في القلمون هي صنف "الدوماني" الأحمر الذي يمتاز بحلاوته وجلده القاسي وقد جاء بهذا الصنف من "دوما" الى بعض قرى منطقة القلمون الملائمة لزراعته من حيث التربة الرملية التي تمنع انتشار الأمراض والحرارة المناسبة لنضوجه وخاصة أن زراعته تراجعت في "دوما" بسبب كثرة الأمراض التي تعرضت لها زراعة العنب، مضيفاً أن هناك لجاناً مشكلة من قبل مديريات البيئة والمياه والصحة والبلدية برئاسة مندوب مديرية الزراعة؛ لمنح تراخيص التشغيل لمعاصر الدبس، في ظل رقابة دورية.

ولفت إلى وجود برامج إرشادية موجّهة للمزارعين حول أهمية شجرة العنب وطرق العناية بها للحصول على إنتاج جيد، إضافة إلى عقد دورات تدريبية في تصنيع الدبس وشطاح العنب بغية إعداده ليكون زبيباً.