أثبتت الاكتشافات الأثرية التي تمّت على مدى عقود ماضية، وجود شبكة من القنوات المائية التي كانت تغذي أحياء مدينة "حمص" القديمة معروفة بمسمى "القنوات الرومانية" نسبةً إلى العصر الذي كانت موجودة فيه، فضلاً عن ما كان يسمى "الآبار الجدارية" التي ما زالت معالمها قائمة حتى اليوم، ما يضيف إلى تاريخ "حمص" العمراني اكتشافات جديدة وفريدة.

هندسة المياه

المهندس "عامر السباعي" رئيس لجنة التراث الهندسي بفرع "نقابة المهندسين" في مدينة "حمص" يقول في حديثه لمدوّنة وطن "eSyria": «وجود هذه القنوات والآبار مثبت بالحفريات التي تمت بمحض الصدفة خلال إنشاء بعض المباني خلال السنوات الأخيرة، ومنها مبنى "نقابة المعلمين" القائم حالياً مقابل الساعة الجديدة وغيره من المباني الأخرى، والأغرب في تلك الحفريات غزارة المياه الموجودة في تلك القنوات، وما شغل فكر القائمين على تلك الاكتشافات هو المصدر الرئيسي لتلك المياه وكيفية توزع تلك الشبكة المتفرعة من القنوات».

وجود هذه القنوات والآبار مثبت بالحفريات التي تمت بمحض الصدفة خلال إنشاء بعض المباني خلال السنوات الأخيرة، ومنها مبنى "نقابة المعلمين" القائم حالياً مقابل الساعة الجديدة وغيره من المباني الأخرى، والأغرب في تلك الحفريات غزارة المياه الموجودة في تلك القنوات، وما شغل فكر القائمين على تلك الاكتشافات هو المصدر الرئيسي لتلك المياه وكيفية توزع تلك الشبكة المتفرعة من القنوات

يتابع المهندس "عامر السباعي" حديثه ليقول: «المصدر الأساسي للمياه التي تغذي المدينة هو نهر "العاصي" وذلك عبر قناة رئيسية مصبُّها النهائي كان ضمن "قلعة حمص" الشهيرة، ضمن الخندق الكبير الذي كان موجوداً في أسفلها، الموضوع حتى الآن يبدو عادياً للقارئ، لكن عندما نخبره بأنَّ عملية توزيع المياه إلى أحياء المدينة المختلفة كان تتم بآلية تنمُّ عن الفكر الهندسي والعمراني الذي كان سائداً لدى السوريين آنذاك، حيث تتم تعبئة ذاك الخندق بواسطة غالق (سِكر) وبعد ذلك يتم توزيع المياه على الأحياء عند فتحه، عبر شبكة القنوات التي ذكرناها من قبل.. صحيح أنَّ تلك القنوات المائية أخذت مسماها "الرومانية" لكنها كانت مصممةً ومنفذةً بكل تفاصيلها من قبل أهالي المدينة حتى قبل الوجود الروماني كما هو معتقد لدى مؤرخي التاريخ والباحثين فيه، وفي عام 2009 وأثناء عملنا كلجنة مختصة بالتراث الهندسي قمنا بزيارة القلعة ونزلنا عبر ممرات وأدراج طويلة إلى عمق 35 م عن مستوى سطحها لنصل إلى فوهة البئر الرئيسية فيها، التي تؤدي إلى ذلك الخندق المائي».

المهندس عامر السباعي

حكاية الآبار

إحدى الآبار الجدارية الموجودة قرب حمام الباشا

اكتشاف ما يسمى "الآبار الجدارية" بدأت حكايته منذ عام 2014 خلال عمل لجنة مكلفة بالإشراف على عملية إعادة ترميم كتلة الأسواق التجارية في مدينة "حمص" القديمة، حيث تمَّ العثور على 7 آبار، موزعة في مناطق مختلفة من المدينة، على الأغلب كان استخدام هذه الآبار يتم لعمليات التنظيف والحاجات الشخصية.

نظام البناء الذي كان قائماً آنذاك من حيث السماكات الكبيرة للجدران -تصل إلى 1 م ومبنية من الحجر الأسود البازلتي لتتحمل الأسقف الأسطوانية والأقواس فوقها- سهَّل من عملية إنشاء تلك الآبار لاحقاً، حيث صادف وجود المياه في تلك النقطة المحددة، وتمَّ حفر بئر ذاتِ عمقٍ قليل لا يتعدى 2-3 م وصنع حوض حجري لتجميع المياه العذبة فيه، يتم سحبها بواسطة الدلو المعلَّق بحبل إلى فوهة البئر الخارجية الموجودة ضمن الجدار، وآثار ذلك ما زالت ظاهرة حتى يومنا حسب كلام المهندس "السباعي".

بئر جدارية في جدار أحد المنازل بحي بني السباعي

ويتابع بالقول: «خلال جولة في أحد أحياء المدينة القديمة تفاجأنا بوجود بئرين جداريتين موجودتين فيه، وهذا ما أثار الانتباه لسبب وجودهما في كتلة الأبنية السكنية، وخاصةً أنَّ معظم البيوت كانت تحتوي على بئر داخلها، ولا سبب لإنشاء هذه الآبار الجدارية، إلاَّ أنها استخدمت كسبيل ماء للمارّة يقيمه صاحب الدار التي توجد البئر في جدارها، وهذا ما بيّنته الكتابات المنقوشة على الشواهد الحجرية الموضوعة فوق فتحة البئر أو السبيل، حتى إنَّ إحدى الآبار كانت قائمةً عند مدخل جامع "أبو لبادة" الواقع في حي "بني السباعي" وما زالت آثارها موجودة حتى يومنا هذا».

قصب السبق

وفي معرض رده على سؤال عما إذا كان لهذه الآبار وجود مماثل في مدينة أخرى، أكد "السباعي" عدم وجود معلومات في الدراسات والمؤلفات التي وضعها الباحثون والمختصون عن هذا الأمر، ولا حتى في وسائل الإعلام، وهذا ما دفعه لكتابة منشور عن هذه الآبار عبر حسابه الشخصي على منصة "الفيسبوك"، وحظي المنشور باهتمام جمعية "المجلس العالمي للمعالم والمواقع" المعروفة باسم "ICOMOS" ومقرها في العاصمة الفرنسية "باريس" وتأسست عام 1965، حيث قامت بنشره لاحقاً عبر موقع "سوريون من أجل التراث" التابع لها، لافتاً إلى أنّ موقع مدوّنة وطن "eSyria" هو أول وسيلة إعلامية تتناول الحديث عن هذا الموضوع.

نذكر أخيراً بأنَّ اللقاء مع المهندس "عامر السباعي قد تمَّ في مبنى "نقابة المهندسبن" بتاريخ 17 أيلول 2021.