لو سألنا عن "شارع شيكاغو" في دمشق، قبل أشهرٍ فقط، لَكان سؤالنا مضحكاً وغريباً، غير أنّ عملاً درامياً حمل الاسم نفسه، عرّف الناس بالزقاق القريب من سينما "الأهرام" الشهيرة في شارع بور سعيد الممتد من بوابة الصالحية حتى تقاطع فيكتوريا.

يستعيد المسلسل (كتابة وإخراج محمد عبد العزيز) أحداثاً شهدها المكان في ستينيات القرن الماضي، مرحلةٌ كان فيها المصوّر "فوزي حداد" والباحث المؤرخ "أحمد المفتي" شاهدين عليها، الأول صاحب محل لمعدات التصوير وصيانة الكاميرات ما زال موجوداً حتى اليوم، والثاني امتلك سابقاً مكتباً خاصاً بجوار الشارع، وكلاهما تحدث لـ"مدوّنة وطن" عن تاريخ هذا الشارع وأحداثه الصاخبة.

فنٌّ ورصاص

يحكي "حداد" لـ"مدوّنة وطن" عن طبيعة الحياة في الشارع يوم دخله عام 1967، حيث انتشرت فيه حينها محال المشروبات الكحولية التي كانت سبباً لمشكلات كثيرة تبدأ بعراك بسيط وتنتهي بإطلاق الرصاص وحتى القنابل، وهو ما ساهم في تسميته بهذا الاسم نسبة إلى مدينة "شيكاغو" الأمريكية، ويضيف حداد: كان المكان حافلاً بالعروض الفنية وبطبيعة الحال الراقصات و"الأرتيستات" ذائعات الصيت حينها، فيما كان معظم زبائن الشارع من مُحبي الكحول ومختلف أنواع المشروبات، وبعضهم من جنسيات غير سورية، بالطبع -يقول "حداد"-: نحن أصحابَ محلات التصوير والبائعين في الدكاكين، لم نكن نتدخل فيما يجري، كنا حريصين على رزقنا فقط.

شارع كان له من اسمه نصيب

ويضيف "حداد" إنه في تلك الأيام لم يكن بإمكان السيدات زيارة الشارع حرصاً على سمعتهن وخوفاً أيضاً على حياتهن، ولا مبالغة في القول إنّ الشارع كان خطيراً حتى على الرجال، متابعاً حديثه: كانت مرحلةً صعبةً، تعرضنا للتهديد وكثيراً ما هاجمنا فاقدو الوعي والسكارى، وأذكر أن إحدى" الأرتيستات" واسمها "أم فهد" حملت سكيناً ودافعت عني، وقالتها علناً "من يُهاجم حداد سأقتله"!.

في الثمانينيات وضعت وزارة الأوقاف يدها على المنطقة وجرى إغلاق محال المشروبات الكحولية، ومع الزمن تحوّلت المحلات إلى مكاتب سياحية ومحلات تصوير، وهنا يعلّق حداد لـ"مدوّنة وطن": اليوم "كلو رواق"، معظم من كانوا هنا رحلوا عن عالمنا، لم يعد الشارع مكاناً للمشكلات وتبادل إطلاق النار، أقترح أن نسميه "شارع الربيع" لما فيه من هدوء وجمال.

الباحث أحمد مفتي

كان يا ما كان

المصور فوزي حداد

من جهته يصف الباحث والمؤرخ أحمد المفتي "شارع شيكاغو" بـ"الدخلة المهملة" التي لم تكن لها أهمية بالنسبة لسكان مدينة دمشق، ولا سيّما أنّها كانت تجمعاً للمخمورين والمنبوذين في المجتمع، على بعد أمتار من سينما الأهرام وأفلامها، بما تحتويه من عنف و"أكشن" وكان أشهرها الفيلم الهندي "جانكلي" للممثل "شامي كابور"، والذي استمرت عروضه لمدة عامين متواصلين..

يتابع "المفتي" حديثه بالقول: المكان لم يكن ملحوظاً لأحد، الأطفال يخافونه والناس يتحاشون الاقتراب منه، شارع موبوء لا يستحق الذكر مقابل أماكن وتجمعات مرموقة عرفتها العاصمة، ولعلّ اللافت في الحديث عن الشارع آنذاك قربه من "دار دمشق للطباعة والنشر" الواقعة على الزاوية في مدخل الشارع، وفي البناء نفسه كان مقر "النادي العربي" الذي ضمّ نخبة من الأدباء والسياسيين والمثقفين، حيث صدرت وثيقة الاستقلال الأولى لسورية!.

يضيف المفتي: كان مكتبي في الطابق الذي يلي "دار دمشق"، لم أكن أستطيع البقاء فيه حتى وقت متأخر، لأن ذلك يعني احتمال الوقوع في إشكالٍ ما، كما حصل مع أحد الجيران الذي أصيب برصاصة في رجله بالخطأ أثناء مشاجرة بين شبانٍ من زبائن الشارع.

وعلى حد قول الباحث، عرفت دمشق أماكن شبيهة بـ"شارع شيكاغو"، منها حديقة جنوب مدرسة جودت الهاشمي، كانت مأوى للمشردين، وفي الستينيات وما قبلها كانت بساتين الصالحية على الشاكلة نفسها.

يُذكر أنّ اللقاء مع المصور فوزي حداد أُجري بتاريخ 31/3/2021، أما اللقاء مع الباحث أحمد المفتي أُجري بتاريخ 5/4/2021.