ضمن سوق مقبي ومسقوف بساتر هرمي تفوح منه رائحة الماضي وعراقة الحاضر تعلو أصوات الباعة بعبارات لجذب انتباه النساء اللاتي يقصدن السوق للتسوق، فعبارات "تفضلي يا خانم" و"تفضلي يا مدام"، هي أول ما يسمعه المارة في "سوق النسوان"، حيث يهدف الباعة للفت انتباه السيدات والشابات ممن يعبرن أمام المحال التجارية، ليدخلن هذا المحل أو ذاك بحثاً عما يلزمهن أو للفرجة فقط ومتابعة البضائع الجديدة، فضمن هذا السوق تجد النساء كل متطلباتهن وحاجاتهن من الألبسة والأقمشة والإكسسوار وأدوات الزينة ومستحضرات التجميل.

في سوق واحد

سوق "النسوان" سمي في البداية سوق "الجمرك"، حيث كان في الماضي خاناً لجمركة البضائع التي تدخلها القوافل التجارية إلى "دمشق" وتحول بعد ذلك إلى سوق تجاريّ يعنى بحاجات النساء، كما ضم سوق "النسوان" مجموعة من الأسواق كسوق "الحرير" وسوق "تفضلي يا ست" وسوق" القيشاني" وسوق "الكلف"، ويعدُّ هذا السوق من أقدم الأسواق في مدينة "دمشق" القديمة، وهو من الأسواق المغطاة التي تحجب الصيف الحار وأمطار الشتاء ما يتيح للمتسوق السير في أزقتها وخاناتها بكل هدوء وراحة، وما زالت هذه الأسواق تعج بحركة الناس والباعة والزائرين "لدمشق"، فمن الممتع التجول في هذه الأسواق ومشاهدة البضائع المتنوعة الموجودة في مكان واحد يحمل حميمية وروح "دمشق" القديمة، فالشيء الجميل في هذه الأسواق أنها متصلة ببعضها البعض بحيث يتمكن الزائر من التجول فيها وزيارتها جميعها في يوم واحد.

تفضلي يا خانم

وعن ذكرياته في السوق تحدث لمدوّنة وطن "برهان زيدان" وهو أحد أصحاب المحال في سوق "النسوان" حيث قال: أعمل بهذا السوق منذ أكثر من أربعين عاماً، فمنذ الصغر كنت أعمل مع جدي وخالي في السوق وكنت من المسوّقين الذين يدعون النساء للدخول إلى الخان للتسوق بمناداتهن بعبارة "تفضلي يا خانم"، التي أصبحت عنوانا للسوق وسمي بها، وكانت توجد أنوال للحياكة تنسج الأقمشة المتنوعة، وقد تنوعت الأصناف مع مرور الزمن، فقد كان في الماضي عبارة عن بيع للقطنيات والدامسكينو والبروكار والأغباني حيث يتم نسج تلك الأقمشة ضمنه، أما حالياً فقد أصبح سوقاً لتصريف المنتجات كالبطلين والحرير والساتان والأوركانزا إلى جانب الكلف والشيفون ومتطلبات الخياطة وكل ما تحتاجه النساء، كما أن السوق بقي محافظاً على طابعه العريق والأصيل بالرغم من دخول بعض المحال التجارية التي تعنى بالألبسة الجاهزة والإكسسوارات ومستحضرات التجميل.

من الأبرة إلى فستان العرس

في سوق القيشاني

نادراً ما يكون قليل الازدحام

وخلال جولتنا في أرجاء السوق ضمن خان واسع ندخل إلى بهوه ضمن باب خشبي عريض وقديم تفوح منه رائحة الماضي نجد أنفسنا ضمن سوق "القيشاني" الذي تتوزع في جنباته كل مستلزمات العرائس من بدلات وإكسسوارات ومكياجات وجهاز العروس وما يسمى في الماضي "بقجة العروس" فكل ما تحتاجه العروس نجده ضمن هذا المكان الجميل، كان السوق في الماضي حماماً ثم أصبح سوقاً للمطرزات التي تستعمل في جهاز العروس من مخدات وأغطية أسرة وطاولات وبياضات، هذا ما أكده "عامر السيد علي" البالغ من العمر حوالي 65 عاماً وهو يعمل فيه منذ كان بعمر 13 عاماً، وهو أحد أصحاب المحال في السوق الذي أكد بأنه من النادر أن تجد في السوق غير النساء ومن مختلف الأعمار يتسوقن من محلاته التي تخصصت في كل ما تحتاجه النساء، ويضيف: في الماضي كان يقصده الناس من كل أرجاء مدينة "دمشق" وريفها لأنّه كان السوق الوحيد المختص بحاجات النساء في ذلك الوقت، وكما أذكر أنه بالماضي كان الخان الممتد من سوق "مدحت باشا" عند باب "الجابية" يسمى أيضاً سوق "النسوان" وحالياً أصبح اسمه سوق "الصوف" فقد تنوعت منتجاته وبضاعته.

بدورها تقول الحاجة "نبيهة الخياط" البالغة من العمر 70 عاماً إنها اعتادت على زيارة السوق منذ الصغر حيث كانت تصحبها والدتها لشراء أقمشة لخياطة فستان لها ولأخواتها في مناسبات الأعياد، كما أنها قامت بشراء جهازها من السوق عندما كانت عروساً، وما تزال مداومة على التجول في السوق لمشاهدة كل ما هو جديد وشراء ما يلزمها من كلف وبطانات وأقمشة حريرية، مبينة أن ثمة تطوراً كبيراً قد طرأ على السوق، ففي الماضي كان السوق عبارة عن مكان مخصص فقط للأقمشة ومستلزمات الخياطة وغيرها، أما حالياً دخلت الألبسة وبدلات العرائس الجاهزة وشغلت حيزاً كبيراً من السوق.

من عبق التاريخ

تفردت "دمشق" منذ الأزل بوجود كوكبة من الأسواق التخصصية ويفتخر الدمشقيون بأسواقهم الجذابة من الناحيةِ التجارية والقيمة التاريخية، وتعود بعض الأسواق الدمشقية إلى العصرِ الروماني وعصور متتالية من الحضاراتِ تلبية لخدمة المجتمع ومتطلباته، كما حافظت أسواق دمشق في العصر الإسلامي على تخصصها الحرفي، وتقاربها في المكان، فقد كان داخل سور "دمشق" القديمة أكثر من 150 سوقاً تتمركز في حنايا دمشق القديمة، وحول قلعتها ومسجدها "الأموي" الشهير، ففي عام 1934 تم ترميم وتعديل معظم الأسواق القديمة، هذا ما أكده الباحث في التراث "محمد فياض الفياض" في حديث لمدوّنة وطن بقوله: «يقع سوق "النسوان" في قلب العاصمة "دمشق" وبالقرب من قلعتها الشهيرة وعند مدخل باب "الجابية" أي بالقرب من سوق القطن، ولعل التسمية جاءت من حاجات النساء ومتطلباتهن من الملابس وغيرها، وترتبط بهذا السوق العديد من الحكايات والأمثال الشعبية الطريفة التي تداولها الدمشقيون على ألسنتهم، وهناك العديد من التداخلات في الأسواق المحيطة مع هذا السوق كسوق "الحرير" وغيره، حتى في بعض المصطلحات المستخدمة في أساليب الترويج للبيع نحو استخدام مصطلح "تفضلي يا ست"، مضيفاً بأنّ الباحث والأديب "نعمان أفندي قساطلي" في عام 1920 ذكر السوق بالتفصيل والدقة في كتابهِ الشهير "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" حيث أكد أن سوق "النسوان" وهو جزء من سوق "الأروام" كان مختصاً بحاجات النساء من اللباس وغيرها، كما كان معظم التجار الذين يعملون بالسوق ينتقون أفضل المنتجات لعرضها تلبية لحاجة الجميع وبأسعارٍ مدروسة، والسوق لا تقل أهميته عن الأسواق المركزية الكبيرة، كونه يحقق فائدتين الأولى توفير الحاجات الأساسية المتعلقة بالنساء وبأسعار مقبولة تراعي الفوارق الفردية، والفائدة الثانية هي اجتماعية ترتبط بثقافة المجتمع المتجانس، وهذا السوق ملاصقٌ تماماً لسوق آخر يسمى سوق "ميلة"، ويسمى أيضاً سوق "البيمارستان" وسوق "قميلة"، قبل أن يتلاشى هذا السوق في الربع الأخير من القرن الماضي،

"الحرير" و"الخياطين"

ويشير الباحث الفياض إلى أن صاحب كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" "أبي البقاء عبد الله بن محمد البدري المصري" الدمشقي، وهو من علماء القرن التاسع، قال في صناعات الشام وأسواقها: (وأهم ما يوجد في "دمشق" وأسواقها ما يتعلق بالحرير الذي يعمل بطريقة الفتل والدواليب، ومنها الموشى والمدهون بما تحتارُ فيهِ النواظرُ والعيون).

وفي حديث سابق للباحث "حسن الصواف" عن سوق "النسوان" قال: إن جادة سوق "الحرير" أو سوق "النسوان" عبارة عن سوق ضيق مسقوف بساتر هرمي، جدد بناء السقف من التوتياء، ويمتد من الطرف الشرقي إلى سوق الحميدية عند أعمدة جوبيتر إلى سوق "القلبقجية" المؤدي إلى سوق "الخياطين" باتجاه شمالي جنوبي، فيما كانت التسمية القديمة للموقع باب بريد، وله تسمية أخرى هي "الطواقين"، أما السوق الموجود اليوم فقد تم تجديده من قبل والي "دمشق" العثماني "درويش باشا" في النصف الثاني من القرن السادس عشر، فهدم المحال التجارية القديمة، وجدد بناءها ووسّع الطريق ورفع السقف، لكن لا يزال من الممكن رؤية الحجارة الرومانية التي استخدمت في بناء السوق الأثري.

كانت وما زالت

يبقى القول إن ما يميز الأسواق في "دمشق" أنها لا تنتمي إلى حقبة زمنية محددة، بل هي وليدة الحضارات السالفة كلها، تأصلت وترسخت في ظل المناخات الاقتصادية الإيجابية، نعم ربما تأثرت نتيجة الغزوات والهجمات الاستعمارية المتكررة ومنها المغول والتتار والاحتلالين العثماني والفرنسي وغيرهم، ولكن دمشق بقيت محافظة على أصالتها، وأثبتت للجميعِ بأنها المدينة المتفردة في الحرف والمهن والصناعات وكذلك الأسواق وطرق التجارة، وستبقى دمشق كما العهد بها قبلة الفنون ومدينة الصناعات، وستبقى أسواقها أيضاً عامرة بالمنتجات الفنية الإبداعية الحرفية ما بقي التاريخ.