وأنت بين هضبات "قورش - النبي هوري" في منطقة "عفرين"، تشعر بأنك بين غابة من الآثار والتماثيل المشغولة بدقة متناهية عمرها آلاف السنين، من هنا تبدأ حدود "المدن المنسية" التي تسمى أيضاً "المدن الميتة" أو "المدن المهجورة"، وأيضاً "قرى الكتلة الكلسية"، وتمتد حتى "أفاميا" جنوباً ومن "حلب" شرقاً حتى منطقة "جبل الزاوية" و"وادي العاصي" غرباً.

بعثات أثرية

يقول الدكتور "مأمون عبد الكريم" الأستاذ في قسم الآثار في "جامعة دمشق" -شارك في العديد من البعثات الأثرية- في حديثه لمدوّنة وطن: «جذبت قرى "الكتلة الكلسية" اهتمام العديد من الباحثين منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي حيث بدأت الاكتشافات الأثرية، عندما زار الكونت "مليكور دوفوغويه" المعالم الدينية في المنطقة وكتب عنها في كتابه "سورية المركزية، عمارة مدنية ودينية من القرن الأول إلى القرن السابع الميلادي"، وتتالت البعثات، ومن الكتّاب المهمين الذين أغنوا معلوماتنا بمنشوراتهم "وادينغتون" من خلال كتابه "الكتابات الإغريقية واللاتينية في سورية مجموعة ومشروحة"، كما اهتمّ "بوتلر" بجميع المباني وقد أشار إلى أنّها قرى وليست مدناً، هكذا تضمنت الدراسات الأثرية -التي لا تعد ولا تحصى- عن "الكتلة الكلسية"، حيث تم إجراء العديد من التنقيبات والدراسات المعمارية التي تهدف إلى فهم أعمق لتطور المجتمع المدني والديني لهذه المنطقة بدءاً من القرن الأول، ومنهم من ركّز على العمارة الجنائزية بهدف توضيح السمات المعمارية التي تتميز بها المدافن والقبور خلال العصرين الروماني والبيزنطي، وكذلك حول الزخارف في العمارة السكنية».

تستند البعثات الأثرية على مجموعة أمور لإيضاح حدود هذه المتنزهات الثمانية، منها الآثار المنسجمة مع بيئتها الطبيعية وجمال بنائها الحجري وبعدها عن المراكز السكانية والمنشآت الصناعية

أزمات وكوارث

استوطِنت المنطقة المذكورة منذ مطلع القرن الأول الميلادي، واستمرت حتى منتصف القرن الثالث حوالي عام 250 ميلادي، حيث بدأت تعاني من كوارث مختلفة لتتعرض إلى أزمة اقتصادية، إضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض نتيجة الحروب مع الفرس كمرض الطاعون، لتعاود نشاطها وازدهارها في القرن الرابع الميلادي وعاد معها الازدياد السكاني والأعمال المعمارية وخاصة في القرن الخامس، لتبدأ حالة الركود من جديد حوالي عام 540 ميلادي أي في منتصف القرن السادس إلى أن هُجِرت.

قورش - عفرين

وفي هذا السياق يضيف "عبد الكريم": «اختلفت مهمات المعماريين المختصين في البناء إبان نهضة هذه المنطقة، فمنهم من اختص بتصميم الأشكال الزخرفية والحليات على واجهات المنازل ورفع الأقواس، أما الفلاحون فكانوا من أصول آرامية قدموا من السهول المجاورة، كما دلّت على ذلك الكتابات الحجرية المكتشفة التي تحمل أسماء لمواقع وأشخاص آرامية الأصل (السريانية)، بعد ذلك تعلموا اليونانية التي كانت لغة السلطة الحاكمة والنخبة المدنية طيلة ألف سنة امتدت منذ اجتياح "الاسكندر المقدوني" وحتى الفتح الإسلامي للمنطقة».

ويرى "عبد الكريم" أن سبب توقف تطور المنطقة هو الحروب التي دارت بين البيزنطيين والفرس الساسانيين، التي أدت إلى انتشار الأوبئة وكذلك حلول المجاعات بين السكان، متابعاً: «هذه الأسباب أشارت إليها مصادر تاريخية كالحوليات السريانية بسبب الانفجار السكاني فأصبح الإنتاج لا يكفي الحاجة، كما تحولت طرق التجارة من المدن المجاورة نتيجة الحروب نحو بلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية، إضافة إلى تعرضها لكوارث طبيعية كالجفاف والهزات الأرضية، ما دفع السكان إلى الهجرة تدريجياً إلى المدن والسهول المجاورة حتى هجرت بالكامل في القرن العاشر».

آثار الرويحة

شحُّ المياه

كنيسة مار سمعان

ويشير الباحث إلى أن أكثر الفرضيات المثيرة للجدل حول مسألة الهجرة -التي تطرق إلى نقاشها العديد من الباحثين حديثاً- فرضية الجفاف وشحُّ المياه، وهذه المسألة لم يتعرض لها الباحثون قديماً لأنّ سكان المنطقة كانوا قد حفروا الخزانات المائية في الصخور لحبس مياه الأمطار، مضيفاً : «ضمن هذا الإطار قمنا -كوني كنت ضمن بعض البعثات الأثرية ومديراً للآثار والمتاحف- بمسح شامل لجميع المنشآت المائية الموجودة في قرى "جبل سمعان" في الشمال وقرى "جبل الزاوية" في الجنوب، وتركزت دراستنا على المنشآت المائية من وجهة نظر أثرية بهدف تصنيفها من حيث الشكل وطريقة التزوّد بالمياه، وترافقت الدراسات الأثرية مع الدراسات الجيولوجية من قبل مختصين لفهم المقاطع الجيولوجية التي تشير إلى وجود المياه، وتبين أن الكوارث الطبيعية لعبت دوراً مخرباً على منظومة المياه في المنطقة وخاصة على الأقنية الطبيعية تحت سطح الأرض وتالياً أدت إلى جفاف الآبار، ونعتقد أنّ شحُّ المياه أحد الأسباب الرئيسية في هجرة السكان من أغلب القرى عبر فترات طويلة».

المتنزهات الأثرية

تمتد المواقع الأثرية في شمال سورية على مساحة كبيرة، يتراوح طولها بين 20- 40 كم من الشرق إلى الغرب، و120 كم من الشمال، من الحدود التركية إلى الجنوب حتى مدينة "أفاميا" الأثرية، وتتطابق الحدود الشمالية مع "سيروس/ النبي هوري" على مسافة 70 كم إلى الشمال الشرقي من "حلب"، في منتصف الطريق بين "أنطاكيا" و"زوغما" على الفرات، وضمن هذه المساحة توجد المتنزهات (أو الباركات الأثرية) الثمانية.

حول هذا الموضوع يقول "طه المحمد" - صفحة "إيمار" الإلكترونية والمهتم بالآثار السورية: «تستند البعثات الأثرية على مجموعة أمور لإيضاح حدود هذه المتنزهات الثمانية، منها الآثار المنسجمة مع بيئتها الطبيعية وجمال بنائها الحجري وبعدها عن المراكز السكانية والمنشآت الصناعية».

ويتابع حديثه قائلاً: «المتنزه الأول موقع "القديس سمعان - قلعة سمعان"، الثاني "البارك الأثري الثاني" في جبل سمعان، الثالث البارك "الأثري الثالث" في الموقع ذاته، والرابع في جبل "الزاوية" ويضم العديد من المواقع منها "البارة، وادي مرتاحون، مجليا، بترسا، بشيلا،...."، والخامس أيضاً في جبل "الزاوية" الواقع في محافظة "إدلب" على المنحدر الشرقي للجبل ويتضمن قريتين هما "رويحة" و"جرادة"، أما السادس في جبل "الأعلى" أيضاً ضمن "إدلب" ويتضمن قرى "كفير" و"قرقبيزة" و"قلب اللوزة"، والمتنزه الأثري السابع يقع في جبل "باريشا" ويحتوي عدة مواقع وقرى، وأخيراً المتنزه الثامن وموقعه في جبل "الوسطاني" بالقسم الغربي للكتلة الكلسية ونجد فيه العديد من العناصر المعمارية مثل مساكن خاصة ومعابد ومقابر وكنائس وأديرة ونوعية عالية من المعاصر والخزانات فضلاً عن آثار وثنية كالمصاطب الدينية وعناصر من العمارة الجنائزية من العصر الروماني».

800 موقع

يقول الباحث في علم الآثار "ناصر الرباط" في كتابه "المدن الميتة.. دروس من ماضيها ورؤى لمستقبلها": «هذه المجموعة المكونة من أكثر من ثمانمئة موقع، منتشرة على مساحة من الهضاب والتلال الجيرية تقارب الألفي كيلو متر مربع، تحوي قرى ودساكر وكنائس وأديرة ومعابد ومدافن ومعاصر زيت وفنادق تعود في معظمها للفترة الواقعة بين بداية القرن الثالث ونهاية القرن الثامن الميلادي، أي إنها تغطي الفترة الرومانية والبيزنطية والإسلامية الأموية ما يجعل هويتها سورية».

يشار إلى أنّ هذه المنطقة أدرجت منذ العام 2011 على لائحة التراث العالمي الصادرة عن منظمة اليونسكو.

لكن الكثبر من هذه المواقع تعرضت خلال الحرب على "سورية" إلى التدمير والنهب الممنهج والتنقيب غير القانوني، كما قامت مجموعات مسلحة مدعومة من قبل "تركيا" بعمليات تجريف وفتح طرقات ضمن بعض هذه المدن، وبناء شبكات الأنفاق والتحصيات واتخذت بعضها كمقرات لها وأماكن للتدريب دون اكتراث من أحد، فضلاً عن تدمير معتمد لبعض المواقع لأسباب عقائدية من قبل التظيمات الظلامية، وخاصة بعض الأديرة والكنائس التي تعود عمرها إلى آلاف السنين، وقام المحتل التركي بتدمير العديد من المعالم الأثرية في " عفرين" بل وسرق منها قطع كثيرة وأدخلها إلى أراضيه، وإلى الآن تدعم شبكات التهريب المحلية من أجل البحث عن مثل هذه الكنوز.