شكّلت منطقة "اللجاة" الواقعة بين محافظتي "درعا" و"السويداء" خزاناً ثميناً للآثاريين الباحثين في كنوز الماضي منذ عصور غابرة وخاصة الروماني منه، لما تتمتع به المنطقة من غنى بالمواقع التاريخية القديمة، فضلاً عن طبيعتها البازلتية الوعرة التي جعلت منها وعبر الأزمنة مركزاً لأحداث ومعارك امتدت حتى التاريخ الحديث.

نظرة عامة

كانت "اللجاة" تعدُّ في نظر العامة ملاذاً يختبئ به أو يفرُّ إليه المطارَدون، أما الباحثون الآثاريون فقد استقوا أخبارها من المصادر المحلية والخارجية، التي وصفت "اللجاة" بأنها مصدر القلق والإزعاج للممالك حولها في بلاد الشام الجنوبية وخاصة إبان عهد الإمبراطورية الرومانية التي حاولت بسط سيطرتها عليها بواسطة شق الطريق المعروف بطريق "دوكلسيان" في وسط "اللجاة"، ووضع المخافر وأبراج المراقبة على جانبيه على نحو يؤمّن سلامة العبور فيه ومراقبة اللصوص الذين قد يجرؤون على الاعتداء على المارة، هذا ما ذكره الباحث الأكاديمي الدكتور "علي أبو عساف" قبل رحيله بأيام قليلة لموقع مدوّنة وطن "eSyria" مضيفاً بالقول: «الطريق بوضعه الحالي جيد ويشهد على إبداع الإنسان في تغلبه على الطبيعة وتذليلها ليحافظ على الأمن والاستقرار ويحقق مصالحه المتعددة، والواقع أن الباحثين الآثاريين ظلوا ينظرون إلى هذه البقعة التي شكلتها الحمم البازلتية، على أنها مصدر خير للإنسان فموقعها الجغرافي بين السهول الخصبة في الشمال والغرب والجنوب، والبادية في الشرق جعلها منفتحة عليها ولم تكن يوماً مغلقة بوجه سكانها، وكونها هكذا ظل البدو يقصدونها في فصل الشتاء ترعى قطعانهم أعشابها وتحتمي في ملاجئها الصخرية الكبيرة ويستعملون أشجارها وقوداً للتدفئة والطبخ».

الحق يقال إن اللجاة متحف طبيعي بصخورها وصباتها وسيولها البركانية، وآثارها التي هي ذاكرة تاريخ هذه المنطقة الحافل بالتنوّع والتعدد والروعة والإتقان والإبداع

ويشير الباحث إلى أن المنطقة شكّلت مقصداً للبحث الأثري فخلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي ومطلع هذا القرن، تشكلت بعثات سورية فرنسية كان هدفها الأول إجراء مسح أثري شامل لهذه المنطقة للتعرف على حضارتها والدور الذي لعبته في حضارة بلاد الشام الجنوبية عامة وحوران خاصة، ومقدار ما تحويه من مواقع أثرية متعددة ومتنوعة وما يمكن أن يوجد فيها من لقى أثرية ثابتة ومنقولة تدل على ثقافاتها، فكانت الاكتشافات مبعث تفاؤل للمشتركين في العمل وللباحثين الآثاريين.

د. علي أبو عساف

بيانات وتوثيق

من الآثار

ويضيف الباحث "أبو عساف": «لقد أحصي حوالي مئة موقع أثري مختلف، تنوعت بين تلال كبيرة وصغيرة، خرَب ذات بيوت واضحة كثيرة، أو تلك التي لا يزيد عدد بيوتها على واحد أو اثنين، إضافة إلى حصون وأبراج مراقبة، وكلها تعود إلى عصور مختلفة، وعدد من التلال الأثرية التي تتركز على أطراف اللجاة مثل: "تل قراصة" الذي يعود إلى نهاية الألف الرابعة والألف الثالثة قبل الميلاد، والجدير بالذكر أنّ موقع "قراصة" ذا الماء الوفير قد استوطنه الإنسان منذ الألف الخامسة ق.م، وموقع "كريم" على الطرف الجنوبي الغربي "للجاة" يتبع لمدينة "ازرع"، وهذه التلال وغيرها تقع داخل أو على طرف بقع سهلية نسبياً تصلح للزراعة أو نمو الأعشاب، وتتكون من طبقات حضرية تتوضع بعضها فوق بعض».

الخرَب القديمة

يشير الباحث "أبو عساف" إلى وجود العديد من الخرَب الكبيرة التي تنتشر على أطراف "اللجاة" فوق صبات بركانية مسطحة تقريباً تحتوي طبقة واحدة من المساكن أو المباني مثل "خربة لبوة" غرب قرية "السويمرة"، وكذلك "خربة المسمية" وما يجاورها، ويشاهد المرء في هذه الخربة بقايا المباني الهامة للفلاحين وحمامات وأماكن عبادة، أما إلى جوارها شرقاً وغرباً وجنوباً فتنتشر تجمعات سكنية كثيرة ومتنوعة على مسافات طويلة، بيوتها واضحة تتألف على الغالب من حجرة واحدة وتعود إلى الألفين الثالثة والثانية، وهذه الخربة ينطبق عليها تعريف المدينة فهي مسوّرة ذات مرافق عامة، معابد، برك ماء، طرق ومساكن خاصة.

ويتابع الباحث بالقول: «يندرج مع هذه الخرَب الكبيرة صنف الخرَب التي يطلق عليها اسم "الكوم"، حيث تحوي بيتاً واحداً كبيراً ربما هو بيت شيخ العشيرة، وتنتشر في معظم أرجاء "اللجاة"، وخاصة على الأطراف قرب البقع السهلية، مثل ما ينتشر صنف "الرجمات" مفردها "رجم" وهي حصون أو مساكن أو أطلال أو أبراج ومخافر وتمثل هذه الأصناف كوم "التين والعزابات" جوار "عريقة" ورجم "السايب" قرب لبوة بجانب قرية "الهيمة" وسط "اللجاة" ورجم "نجدة" قرب "الشرايع" وهي من عصور مختلفة تمتد من الألف الثانية ق.م وحتى الفتح العربي الإسلامي، وتتوزع الأبراج على أطراف "اللجاة" وعلى جانبي الطريق الروماني الشهير وفي أماكن أخرى للمراقبة وعمليات الإنذار».

العصور الحجرية

بدوره يشير الباحث الأثري الدكتور "نشأت كيوان" إلى أن الاستيطان البشري في منطقة "اللجاة" يعود إلى عصور غارقة في القدم، متزامناً مع الاستيطان في السهول المجاورة، بدءاً من العصر الحجري الحديث في الألف الخامسة ق.م. والعصر الحجري النحاسي في الألف الرابعة ق.م، ثم عصور البرونز الآلف الثالثة ق.م. الألف الأولى ق.م. أي العصور التاريخية الآمورية، الكنعانية والآرامية، العربية، وترتبط ارتباطاً قوياً بثقافة المدن والقرى السهلية، غير أنها ذات طابع بدوي، فالمسكن من حجرة واحدة تفتقر إلى مرافق خاصة لخزن مواد التموين بأنواعها المختلفة كتلك التي يحتاجها الفلاح، وانتشار الخرَب بشكل أساسي على أطراف اللجاة هو دليل على حالة البداوة، التي فيها استغلال شتوي لمسطحات السيول البركانية والفجوات بينها التي تنبت فيها الأعشاب الرعوية وتتجمع في أحواضها المياه مع توفر حطب الوقود، أما في الصيف فيتجهون نحو السهول حيث تتوفر المياه بالينابيع والبرك والمراعي في الحقول الزراعية.

ويختم الباحث "كيوان" حديثه بالقول: «الحق يقال إن اللجاة متحف طبيعي بصخورها وصباتها وسيولها البركانية، وآثارها التي هي ذاكرة تاريخ هذه المنطقة الحافل بالتنوّع والتعدد والروعة والإتقان والإبداع».