وسط سوق "الحميدية" الذي يتوسط مدينة "دمشق" القديمة، يقع سوق "نصري" الذي كان يعرف حتى منتصف القرن الماضي بسوق "الطرابيش" التي اعتاد الرجال ارتداءها منذ عدة قرون، حيث ازدهرت صناعة "الطرابيش" في تلك الآونة في عدة مناطق بدمشق كحي "الميدان" الدمشقي، و"المرجة"، كان ذلك أيام كان لبس "الطربوش" حينها ضرورة بل ورمزاً للفخامة والوقار والأناقة والذوق الرفيع.

رحلة "الطربوش"

ظهرت موضة ارتداء "الطرابيش" في "سورية" منذ أكثر من 400 عام في عهد الدولة العثمانية، وأصبح لباساً رسمياً، وانتشر على نطاق واسع بين أكابر ووجهاء الحارات الدمشقية العريقة والمسؤولين والموظفين في الدوائر الرسمية ومعلمي المدارس، حيث كانوا يتباهون بوضع"الطربوش" على رؤوسهم، وكان ارتداؤه مظهراً من مظاهر الرجولة والقوة في ذلك الوقت، وأصبح "الطربوش" سيد الأزياء الشعبية ومن أساسيات الزي الرسمي، فارتبط بملامح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك اهتم الوجهاء وكبار الشخصيات باقتناء أجود أنواع "الطرابيش" المصنوعة من الجوخ الأحمر المستورد من "تشيكوسلوفاكيا" السابقة، "المغرب" أو "مصر" و"النمسا.

وقد ازدهرت صناعة "الطرابيش" في "دمشق" و"حلب" في الماضي، لكن مع اندثار عادة ارتداء" الطربوش" وتخلي الدمشقيين عن استخدامه كغطاء للرأس قلّ عدد المصنعين له ولم يتبق منهم سوى اثنين أو ثلاثة في "دمشق" ومثلهم في "حلب"، وهؤلاء يصنعونه بقصد العرض والزينة ويبيعونه لتجار التحف والشرقيات في سوق "الحميدية" بدمشق أو الأسواق الشعبية في "حلب".

محمد حمدي قنارة

كان يا ما كان

محمد خير شكير

ويقول الحاج "محمد حمدي قنارة" صاحب أحد المحال التجارية بسوق الحميدية إن العرفّ قديماً يعدُّ الرجل الذي يضع طربوشاً على رأسه من الذوات ومن علية القوم، وليس من العوام، فقد كان "الطربوش" ضرورياً لاستكمال المظهر الرسمي عند الموظفين الحكوميين، إلى أن انتهى استخدامه بعد الاستقلال، وبقي في سيرة الذاكرة الشعبية والتراث، فكان"الطربوش" يميز من يعمل في وظيفة رسمية عالية، حيث كان لصاحب الدخل المحدود "طربوش" واحد، وللشخص الغني طرابيش كثيرة تتفاوت من حيث اللون والمقاييس، مضيفاً: "في أيامنا هذه لم يعد هناك من يطلب "الطربوش" لغايات الأناقة والضرورة التي تمليها المكانة الاجتماعية للشخص الذي يضعه على رأسه، كما حال الحطاطة والبريم، فقد أصبح" الطربوش" فلكلوراً تراثياً، ويقبل البعض على شرائه لشكله الفلكلوري ولأخذ صور تذكارية وهم يرتدونه على رؤوسهم، كما أن معظم "الطرابيش" المنتشرة في السوق حالياً مصنوعة من الكرتون ومغلفة بالمخمل ويتراوح سعرها بين 2000 ليرة و6000 ليرة، في حين أن الأصلية المصنوعة من القش يتجاوز سعرها حوالي 300 ألف ليرة سورية".

طريقة التصنيع

يصنع" الطربوش" من مادة الجوخ الخام والقش الصيني الذي يغلف "الطربوش" من الداخل ويستخدم كعازل للرطوبة وكمادة لإكسابه المتانة والتناسق، ولكل رأس مقاس وقالب محدد يتناسب مع القياس، يتراوح حجمه بين 75-25 سم، ويتم تجهيز القش ويوضع على القالب النحاسي الذي يتم تسخينه بالنار ويكبس ويشد بواسطة المكبس، ثم يطلى جداره الداخلي بمادة النشاء ويلبس فوق قالب القش حتى يجف النشاء فيأخذ "الطربوش" شكله النهائي المناسب، وتوضع بعدها الشرابة المصنوعة من أجود أنواع الحرير فوقه، وحول الألوان المستخدمة في "الطرابيش" يشير "قنارة" إلى أن اللون الأحمر الغامق كان يصر عليه الكبار حيث يعطيهم اتزاناً وأناقة أكثر، وهناك اللون الأحمر الفاتح للأطفال، كما أن لابسي "الطربوش" في الماضي كانوا من سكان المدن في حين ليس له زبائن في الأرياف، وحالياً بعد فقدان زبائن" الطرابيش" الأساسيين واقتصاره على الدور الفلكلوري والتراث، أصبحت "الطرابيش" تصنع من الكرتون المغلف بالمخمل.

الطربوش الأصلي والتقليد

في الدراما

وخلال جولتنا ضمن أسواق "دمشق" القديمة التقينا "محمد خير شكير" من منسقي ملبوسات الممثلين في الدراما السورية وخصوصاً الدراما الشامية، والذي يوضح أن معظم زبائنه حالياً هم منتجو المسلسلات التلفزيونية، الذين يأتون لتفصيل" طرابيش" في حال وجود مشاهد في العمل التلفزيوني تقتضي ارتداء الممثلين لها عندما يغطي العمل حقبة ما قبل الخمسينيات من القرن الماضي، بالإضافة إلى الزي الدمشقي المرافق للطربوش، وكان للدراما دور كبير في إعادة إحياء "الطربوش" حيث حرّكت الطلب عليه وأعادته من جديد إلى ذاكرة من أوشك على نسيانه، كرمز فلكلوري وتراثي وسلعة أثرية يتهافت السياح إلى شرائها واقتنائها.

أغانٍ في الذاكرة

تغزل المغنون في الماضي بالطربوش على أنه سيد الأزياء الشعبية، فابتدعوا له العديد من أغاني الغزل والعشق، تقول إحدى هذه الأغنيات ـ وباللهجة العامية: "حبيبي أسمر ومعدل وطربوشه سوري مجدل يا ربي تحمي الأسمر حتى يعدل طربوشه والندل تأخذ عمره والخاين عني تحوشو" .

ويذكر المؤرخ محمد سعيد القاسمي في كتابه (قاموس الصناعات الشامية) أن الطرابيش في عهد السلطان محمود كانت تجلب من البلاد الأجنبية، "وبدأ أمرها ينتشر حتى عم واستعاضت الناس بها عن جميع ما تقدم من القاووق والعرف والطبزة واللبادة".

أجري اللقاء بتاريخأالرابع عشر من تموز 2021.