ينصّبُّ اهتمام كتب التاريخ التي تتحدث عن القلاع، على دورها الدفاعي وتأمين سلامة الطرق المؤدية إليها، لكن هذه القاعدة لا يمكن تعميمها على حقبة حروب الفرنجة في المشرق العربي، حيث شكلت قلاعهم وخاصة تلك المنتشرة في المناطق التي تتبع اليوم لمحافظة "طرطوس"، منظومةً متكاملة، فهي عبارة عن حلقات متتالية، فالأبراج أولاً ثم قلاع صغيرة أكثر تحصيناً لتأتي الحلقة الأقوى المتمثلة بالقلاع الكبرى، لذلك يمكن تقسيم قلاع المحافظة إلى رئيسية وثانوية، وهي متنوعة الوظائف من عسكرية إلى اقتصادية ودفاعية.

قلعة "طرطوس"

البدايةُ من قلعة "طرطوس" أهم القلاع الرئيسية، وعنها يذكر المؤرخ "رنسيمان" أنه وبعد سيطرة الفرنجة على "معرة النعمان" سنة 1098 ميلادية، اتجهوا إلى مدينة "طرطوس" حيث وصلوها بقيادة الأمير "ريموند الصنجيلي" مع جيش مكوّن من مئة فارس ومئتين من المشاة، واستطاعوا دخولها حيلةً، بعد أن أضرموا النيران حول المدينة من ثلاث جهات ليلاً، وما كادَ يأتي النهار، حتى لم يبقَ أحد من سكانها، الذين هربوا نحو جزيرة "أرواد"، وبعد دخولها باشر الأمير "ريموند" بتحصينها وجعلها قاعدةً لاحتلال مدن الساحل والجبال المشرفة عليها.

لعبت الجغرافية غير الحصينة دوراً في كثرة عدد القلاع وصغر حجمها، وتخريب معظمها لاحقاً، مقارنةً بقلعة محصنة كـ"المرقب" التي ما تزال صامدةً حتى الآن، الأمر الذي يعطي اليوم أهميةً لاستخدام التقنيات الحديثة في إعادة بناء نماذج رقمية ثلاثية الأبعاد لهذه القلاع والأبراج المهدمة، بالاستعانة بتقنية "الليدار" بشكل خاص، حيث يمكن الحصول على هذه النماذج من خلال مسح الآثار الباقية وترميمها إلكترونياً، أو بنائها بشكل كامل إذا كانت مهدمة تماماً، ومعرفة كيف كانت تبدو في أوج ازدهارها، الأمر الذي يمكن الاستفادة منه في صناعة نماذج حقيقية مصغرة لهذه القلاع والاستفادة منها سياحياً وعلمياً

وللأمانة التاريخية هناك حادثةٌ غير معروفة عند أغلب المتابعين لتاريخ قلاع "طرطوس" خلال الحكم الفرنجي، يرويها لمدوّنة وطن أ. "محمد شاهين" الباحث المتخصص في تاريخ العصور الوسطى بالقول: «عند محاولة "الصنجيلي" محاصرة "طرطوس" طلب أهلها من الدولة الفاطمية في "القاهرة" إرسال المساعدة، فما كان من الأمير "بدر الدين شاكر الخفير" وهو ذو قرابة من "حامد الكيمي المحرزي"، صاحب أغلب قلاع ريف "طرطوس"، إلا أن قاد أسطولاً بحرياً للدفاع عن أهلها، لكن "الصنجيلي" تمكن من صدّ الهجوم بعد تحصين المدينة، ومع موته منح ملك بيت المقدس "بلدوين" الثالث المدينة لفرسان الداويّة سنة 1152 – 1158 ميلادية، حيث أعادوا بناءَ المرفأ وتحصين المدينة، وأقاموا برجاً يطلّ على البحر وهو برج "المينا"، بالإضافة إلى بناء كاتدرائية القديسة "ماريا" على أنقاض كنيسة "الحجاج"، التي تُعرف اليوم بمتحف "طرطوس"، وبقيت المدينة بيد فرسان الداويّة الفرنجيين حتى 1302 ميلادية، حيث طردهم منها السلطان المملوكي "الناصر محمد بن قلاوون" إلى جزيرة "قبرص"، مصطحبين معهم أيقونةَ الكاتدرائية».

بقايا قلعة"يحمور" وبرج "ميعار"

المرقب وصافيتا

ومن القلاع الرئيسية أيضاً "المرقب"، وسمّيت بالفرنجية "مرغات"، أعاد العرب بناءَها بين العصرين الأموي والعباسي، وفي سنة 1104 ميلادية تمكن القائدُ البيزنطي "جون كانتاكوزيتوس" من حكمها فترةً قصيرة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى الحكم العربي تحت لواء بني "محرز"، وفي سنة 1116 ميلادية احتلّها أمير أنطاكية "روجر" الفرنجي حتى سنة 1189، حيث حصلت على حكم مستقل تابع لأسرة "مانيسوير" الإقطاعية التي ترجع بأصولها إلى وسط "فرنسا"، وبعد زلزال سنة 1186 الذي دمّر أجزاء كبيرة منها باعتها إلى فرسان الاستبارية، فأعادت تحصينها وبناء برج متقدم وظيفته حماية المرفأ، ويعرف اليوم باسم برج "الصبي".

أما القصر الأبيض أو ما يعرف اليوم ببرج "صافيتا"، وهو الجزء المتبقي من القصر إلى جانب أجزاء من السور مع البوابة، فهو يصنف أيضاً من القلاع الرئيسية، وللقصر موقع هام كونه يتوسط كلاً من قلاع "الحصن" و"يحمور" وبرج "ميعار" و"أم الحوش" و"العليقة"، ومن خلاله كان يتم إرسال الإشارات النارية لتلك القلاع، ومع وجود كنيسة البرج، يمكن القول أن وظيفتَه كانت دينية استطلاعية أكثر منها حصناً حربياً، حيث كان أول ما قام به الفرنجة بعد احتلاله هو إعادة بناء الكنيسة في القرن الثاني عشر الميلادي، وقد حاول المسلمون بقيادة الأمير "حامد الكيمي" المحرزي استعادة البرج، لكنه لم يوفق، إلى أن تمكن الأمير "نور الدين الزنكي" من تحرير البرج والقلعة، لتعود وتسقط من جديد بيد فرسان الداويّة الفرنجة، ويتبعونها بقلعة "طرطوس"، ومن الجدير ذكره أن قلعة "صافيتا" ظلت موجودةً حتى القرن التاسع عشر الميلادي، ثم اختفت نتيجةً لتوسع المدينة، واستخدام حجارتها في بناء البيوت، ولم يبقَ منها حالياً إلا برجها الشهير.

قلاع ثانوية

وإلى جانب القلاع الرئيسية، تضمّ محافظة "طرطوس" عدداً من القلاع الثانوية، منها "القصر الأحمر" ويعرف حالياً بقلعة "يحمور" التي كانت تتبع "أنطاكية"، ثم انتقلت إلى حكام "طرابلس" الفرنجية، لتقدم كهدية من قِبل "ريموند" الثالث أمير "طرابلس" إلى الاستبارية الموجودة في "المرقب"، ثم دخلها "صلاح الدين الأيوبي" سنة 1188، لكن الاستبارية تمكنوا من استعادة حكمها حتى تم تحريرها على يد السلطان المملوكي "قلاوون"، والقلعة حالياً تحتاج إلى الترميم بعد أن تعرضت للدمار.

أما قلعة "العرّيمة" التي كان لها دور هام في تشكيل المنظومة الدفاعية للفرنجة من "طرابلس" إلى "طرطوس"، فقد ظلت بيد الفرنجة حتى حررها سلطان المماليك "الظاهر بيبرس" سنة 1271، وهي اليوم من القلاع المنسية بين غابات السنديان والبلوط، بعد أن استُخدمت حجارتها في بناء البيوت من قِبل السكان المحليين، كما الحال مع قلعة "الكيمة" أو كما عرفت قديماً بحصن "دي لوكاميل"، وحصن "مرقية" وبرج "ميعار" وبرج "أم حوش" الذي لم يبق منه إلا نقش لصليب على عتبة إحدى نوافذه.

أدوار متعددة

يشير المدرس في جامعة "طرطوس" أ. "مهند لوحو" المتخصص في نظم المعلومات الجغرافية GIS إلى أن القلاعَ الفرنجية في محافظة "طرطوس" تأخذ شكل خطين متقاطعين، خطٌ ساحلي يبدأ من قلعة "المرقب" وصولاً إلى "طرطوس"، وبينهما شكّل برج "مرقية" نقطةَ مراقبة متقدمة على الطريق البحرية، وخطٌ يتجه نحو الداخل وصولاً إلى "صافيتا"، فقلعة "الكيمة" التي تشكل نقطة دفاع داخلية عن "صافيتا"، مروراً بقلعة "يحمور" وبرجي "ميعار" و"أم حوش" اللذين يشكلان أبراج مراقبة على طريق "صافيتا طرطوس"، ويلفت "لوحو" إلى أن هذه المواقع تعكس بشكل واضح الفلسفةَ السائدة في فترة الحروب الفرنجية، حيث الأهمية للسيطرة على المراكز البشرية الرئيسية، مع إقامة نقاط دفاعية وأبراج مراقبة وإنذار فيما بينها، مع أهمية السيطرة على الطريق الساحلية من خلال قلعة "المرقب"، التي حولها موقعها الاستراتيجي الحاكم إلى قلعة كبيرة، فيما اكتفى برج "مرقية" بدور المراقب.

ويضيف أ. "لوحو": «لعبت الجغرافية غير الحصينة دوراً في كثرة عدد القلاع وصغر حجمها، وتخريب معظمها لاحقاً، مقارنةً بقلعة محصنة كـ"المرقب" التي ما تزال صامدةً حتى الآن، الأمر الذي يعطي اليوم أهميةً لاستخدام التقنيات الحديثة في إعادة بناء نماذج رقمية ثلاثية الأبعاد لهذه القلاع والأبراج المهدمة، بالاستعانة بتقنية "الليدار" بشكل خاص، حيث يمكن الحصول على هذه النماذج من خلال مسح الآثار الباقية وترميمها إلكترونياً، أو بنائها بشكل كامل إذا كانت مهدمة تماماً، ومعرفة كيف كانت تبدو في أوج ازدهارها، الأمر الذي يمكن الاستفادة منه في صناعة نماذج حقيقية مصغرة لهذه القلاع والاستفادة منها سياحياً وعلمياً».