يصفه د. "علي القيم" الذي عرفه منذ عام 1970 بأنه من المثقفين الشموليين، هو الباحث الآثاري والمترجم الكبير الراحل "قاسم طوير" الذي ألّف العديد من الكتب التاريخية والآثارية، وساهم في عدة مؤتمرات وندوات محلية وعربية وعالمية، كما أجاد عدة لغات عالمية ساعدته في إقامة علاقات مع كبار علماء الآثار في العالم.

مسيرةُ حياة

للحديث عن مسيرة الراحل "طوير" -الذي أرسل معهد الآثار الألماني خطاب تعزية رسمي بوفاته-، التقينا "محمد فياض الفياض" الباحث في التراث الثقافي والمحاضر في التراث الشعبي الذي يقول لمدوّنة وطن: «كان لي شرف اللقاء مع الباحث الراحل "طوير" في المديرية العامة للآثار والمتاحف عندما كان يشغل منصب "مدير التدريب والبحث العلمي" ثم تتابعت اللقاءات في محطات كثيرة خلال المؤتمرات والندوات وورشات العمل التخصصية المتعلقة بالتراث الثقافي بشقيهِ المادي وغير المادي»، مضيفاً: «هو من الرجال النبلاء عرفناهُ عن قرب وكان يتمتعُ بذهنٍ مُتقدٍ يعجُّ بالفكرِ الخلاق، وكيف لا وهو صاحب المبادرات الهادفة، وكان لهُ الفضل الكبير في تطويرِ آليات البحث والتدريب العلمي في مجال العلم الآثاري، ينتمي إلى أسرة نبيلة صاحبة فكرٍ وحضور في الميدان الثقافي والاجتماعي».

أثناء إحدى زياراتي لـ"طهران" التقيت الراحل د."طوير" في السفارة السورية حيث كانت زوجته وأخت صديقي تعمل هناك تعرفت إليه وشغفت به من اللحظة الأولى لملاءته وكفاءته إضافة إلى تواضعه ودماثة خلقه وابتسامته التي ترتسم دائماً على وجهه والتي تنم عن الطيبة والثقة

الباحث والمنقب

بعد حصول "طوير" على الثانوية العامة توجه للدراسة في "ألمانيا" حيث درس التاريخ والآثار وتعمّق فيهما، من خلال دراسة التاريخ بكل مفرداتهِ وجزئياتهِ، والآثار من خلال عصورها وخصوصيتها، وعند عودتهِ إلى أرض الوطن، باشر بالتدريس في جامعة "دمشق" بكليات متعددة منها كلية الفنون الجميلة وكذلك الهندسة المعمارية وقسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية.

من كتبه المترجمة

وخلال حديثه عن "طوير" يقول الباحث "فياض": «التقيتهُ ذات مرة في كلية الآداب قسم التاريخ بحضور كوكبة من الأساتذة والباحثين أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الراحل د." سهيل زكار" ود. "جباغ قابلو" الذي كان رئيساً لقسم التاريخ آنذاك ود. "جهاد عبود" المختص باللغاتِ القديمة، ود." عادل عبد السلام" الباحث والعالم في القضايا والعلوم الجغرافية، وقد تميز الراحل د."طوير" ببراعةِ الحديث إذ كان يشدُ سامعيهِ لحسن سردهِ للواقعِ وحكمتهِ في إدارة الحوار الناجح، والتعامل مع أقرانهِ بلطفٍ وحنكةٍ دونما استفزازٍ أو نقدٍ جارحٍ، وهذا طبعُ الناس النبلاء الذين يحسنون التعامل مع الآخرين، كان مديراً للتدريب والبحث العلمي، ورافق العديد من بعثاتِ التنقيب وكان مشاركًا فاعلًا وأذكر من تلك المواقع "الرقة"، و"رأس ابن هانئ" كما كان مديراً لبعثتي "هرقلة" و"قصر البنات"».

حضورٌ دوليّ

يذكر لنا الباحث "فياض" أنّ الراحل درّس مادة الآثار الإسلامية في جامعة "الملك سعود" في "الرياض" في الفترة الواقعة بين عامي 1982-1983م كما حصل على منحة "فوليراين" في "واشنطن" للبحث العلمي والتدريس في جامعة "لوس أنجلوس" في كاليفورنيا بـ"الولايات المتحدة الأمريكية" عام 1981م، كما حاضر وشارك في عدة مؤتمرات علمية ودولية حول الآثار الشرقية في "ألمانيا" الغربية وذلك في الأعوام 1979-1982-1986 م كما كان لهُ الحضور الأنيق في المؤتمرات التي نظمت في "هنغاريا" عام 1977 م و"الولايات المتحدة الأمريكية" أعوام 1979-1986 م، وألقى العديد من المحاضرات المتعلقة بالآثار السورية في أكثر من ست عشرة جامعة في "أمريكا" و"كندا"».

خطاب التعزية من المركز الألماني

غمارُ الترجمة

من رحلته مع التعريب

وعنه كمترجم يقول "فياض": «كان الراحل "طوير" يجيد عدة لغات منها الألمانية والإنجليزية والفرنسية وكذلك الإيطالية، وله باع طويل في التأليف والترجمة، كما كان أميناً لسر الندوة الدولية لتاريخ وآثار "الرقة"، "دير الزور"، "اللاذقية" و"إدلب" في أعوام مختلفة، كما قام بحملةِ تعريب رائدة للمصادر العلمية الأجنبية حول الآثار مترجماً عن الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنجليزية، ولهُ العديد من الكتب المطبوعة والأبحاث والكتب المترجمة».

ويختم حديثه بالقول: «لقد شكّل رحيل "طوير" خسارة كبيرة لميدان العلم والثقافة والآثار ليس على مستوى "سورية " فحسب وإنما على مستوى العالمِ، تاركاً إرثاً ثقافياً متعدد الجوانب يعجُ بالثراءِ والعلم ويستحق أن يُكرم على المستوى الثقافي، العلمي والتوثيقي بأن تقوم المؤسسة العامة للبريد بإصدار طابعٍ بريدي يخلدُ مسيرة هذا العالم المتبحر».

مقطعٌ مصوّرٌ يوثّق رحلته

من جهته "غسان كلاس" الناقد والباحث الأدبي والتاريخي الذي التقى الراحل في برنامجه "يحدثونك من القلب" عام 2016 يذكر لقاءه الأول معه بقوله: «أثناء إحدى زياراتي لـ"طهران" التقيت الراحل د."طوير" في السفارة السورية حيث كانت زوجته وأخت صديقي تعمل هناك تعرفت إليه وشغفت به من اللحظة الأولى لملاءته وكفاءته إضافة إلى تواضعه ودماثة خلقه وابتسامته التي ترتسم دائماً على وجهه والتي تنم عن الطيبة والثقة».

ويتابع: «التقينا مرات عديدة وكنا نتبادل أطراف الحديث في الفكر والثقافة والتاريخ ونعدد الذين اكتشفوا وأسهموا في التاريخ السوري، ولا سيّما أنه أمضى فترة طويلة من حياته في المديرية العامة للآثار والمتاحف ولم يكتف بالإطار النظري بل تابع بعثات التنقيب الأثرية التي كانت تأتي من عدة دول تبعاً لاتفاقيات، وكان يرافقها وله بصمات واضحة في اكتشافات معينة سجلت باسمه وهي مدونة بفيديو أعددته لبرنامجي "يحدثونك من القلب" ويتحدث فيه عن ذاته وتعلمه ورغم أنه من مواليد "دير الزور" عام 1936 إلا أنه أمضى سنوات قليلة فيها بسبب تنقله وشغفه بالآثار والتاريخ والدراسة الأكاديمية داخل "سورية" وخارجها، كنت أتردد لزيارته في منزله وعرفني إلى جاره د. "عبد القادر ريحاوي" الذي استطعت أن أتابع مسيرته العلمية فيما بعد».

ناشر المعرفة

يوضح" كلاس" في حديثه كيف استطاع "طوير" أن يبني ذاته بذاته وينهل من المعرفة وساعده في ذلك تمكنه من اللغة الألمانية وترجمته للعديد من المؤلفات والأبحاث كما كان يكتب في العديد من المجلات الدولية بلغة تلك الدول ليعرِّف عن تاريخنا وآثارنا السورية التي نعتز بها، لافتاً إلى أنه كان يحمل قلب طفل بمحبته ومودته للآخرين وهو معطاء لدرجة بعيدة.. مضيفاً: «عند لقائي به في "إيران" أهداني كتاباً عن آثار "دمشق" وضعه بأمانتي دون أي مقابل وطلب مني إعادة نشره مرة ثانية عندما تسمح الظروف وأرفق معه تنازلاً واضحاً أمام عدد من الأصدقاء لنشره مجدداً وإفادة الناس منه، كما أهدى محتويات مكتبته الضخمة حوالي عام 2010 إلى الأصدقاء والزملاء لأنه أراد أن ينتفع بها أكبر قدر من الناس وأهداني معظم مؤلفاته التي كانت متوفرة عندما عاد إلى "سورية" واختار لي كتاباً أو كتابين من الكتب الهامة في مجال تاريخ "دمشق" وشرفني بها أيضاً.. كنا على تواصل دائم حتى خلال سفري، عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وتأثرت لعدم مشاركتي بمراسم تشييعه لأنني كنت في "البرازيل" لنيل الدكتوراة وكان لي شرف نشر فيلم طويل عنه وعن مسيرته على صفحتي على "فيس بوك" عند وفاته في الثامن من أيار عام 2021 إثر إصابته بـ"كورونا"».

يبقى القول

عمل الراحل."قاسم طوير" في المديرية العامة للآثار والمتاحف من العام 1975 م وحتى العام 1994 م وهو حاصل على وسام الاستحقاق الألماني من الدرجة الأولى عام 1978 م، كما حصل على وسام الاستحقاق الإيطالي بدرجةِ فارس عام 1979 م، وحاصل على جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية لأفضل ترجمة من لغاتٍ أوروبية إلى اللغة العربية وذلك عام 1983 م، مارس التدريس الجامعي عام 1963 م، التحق بمدرسة اليونسكو في "روما" للحفاظ على المدن التراثية عام 1971 م.

كان عضواً مراسلاً في المعهد الألماني أكبر مؤسسة علمية بحثية في علوم الآثار وعضو لجنة التنسيق للمباني القديمة بمنظمة "اليونسكو"، ممثل جائزة منظمة المدن العربية في "الدوحة"، وممثل جائزة "الآغا خان" ومركزها في "جنيف".