رؤية أدبية حاول الأديب "باسم سليمان" توضيحها من خلال مجموعتين شعريتين ومجموعتين قصصيتين بعدما خاض ثلاثة عقود من حياته بعيداً عن الأدب، حيث يعتبر نفسه كطفل يتعلم السير حديثاً.
مدونة وطن eSyria التقت الأديب "باسم سليمان" بتاريخ 16/1/2013 بمنزله في مدينة "صافيتا" وأجرت معه الحوار التالي:
لكل شاعر صوت، ولكل صوت هواء يحمله، ولصوت الشاعر "باسم سليمان" ذلك التركيب الخاص الذي يعتمد على إيقاع يتقطّع في صور ليعود في أخرى أكثر وضوحاً وصدقاً بقصد تدوير الفكرة ومنحها ذاك الدافع السيكولوجي مع دأبه على استخدام السخرية والتلميح في أغلب نصوصه مما يزيد من قيمة وذاكرة النص الشعرية. يتعمّد "باسم" أغلب الأحيان الغموض في الطرح، ولكنه متماسك وحازم طالما الأفق عنده مفتوح وصادق
** هو سؤال طرح عليّ كثيراً وفي كلّ مرّة أحاول أن أفكر في جواب مفيد وصائب، لأني دخلت في عالم الادب متأخراً وذلك في عقدي الثالث وتزيد أربعة سنوات، علماً أنه لم تكن توجد ميول سابقة تجاه الأدب وبالأحرى كنت أكرهه، ولكن حدث تغير في المزاج أو الدم أو روح جديدة اعترتني وفجأة بدأت بكتابة الشعر وكأني طفل بدأ المشي حديثاً دون أن يعي ما هي آلية المشي أو حركاته ونقلاته، حتى إن قضية التقييم كنت بعيداً عنها.
بدأت بكتابة الشعر وقمت بمراسلة صحيفة "تشرين" وقدمت العديد من القصائد وأعجبت بالعملية بمجملها، وبدأت تضفي تراكماتها ونتائج تجاربها لتكون ذاكرة وفكراً جديداً لي وكأني لست أنا "باسم" الشغوف بعلم الفلك والتاريخ وعلم الحفريات، وهنا أصدرت ديواني الأول بعنوان "تشكيل أول" وبدأت بالكتابة في صحيفة "تشرين" و"الثورة" و"البعث" أيضاً، وبعدها أصدرت مجموعتي الثانية بعنوان "تماماً قبلة" في عام /2009/، وهنا أؤكد لك أني لا أعلم كيف أصبحت أديباً وكاتباً.
** أوافقك هذا الكلام ولكن قضية التجنيس في القصة أو الشعر وحتى الرواية تكون تبعاً لطريقة الإخراج، علماً أن الروح واحدة وبالتالي, أنا أرى أن الشعر هو أداة مختلفة عن القصة ولكن الموضوع واحد، فأنا أكتب وأعي ما حولي وأعي ذاتي، لأنه لا يمكن لأي إنسان أن يكتب خارج محيطه وذاته، وهذا يعني أن شجرة الأدب جذورها واحدة ولكن طرحها يختلف. وبالنسبة لكيفية كتابتي بعدة أدوات أقول إن قدرتي على امتلاك عدة أدوات هي من قدرتي على امتلاك عدة أرواح، فحتماً عندما أكتب الشعر يكون قد سبقها فترة تحضير أنقطع فيها عن غيرها كالقصة، حيث أشعر بروح جديدة تحل في داخلي أدخل من خلالها في فصل الشعر وروحه الجوهرية، ولو قاربتها أكثر هي كما الممثل الذي يملك شخصيته الاساسية ويتلبس شخصيات أخرى متعددة بحسب الدور الموكل له.
** أكيد يوجد فرق شاسع بينهما ولا سبيل للمقارنة، وتكمن القضية بأني في كل يوم وكل لحظة أمحو نفسي وألد من جديد، وهذا ما يسمى التطور، وأهم شيء للكاتب أن يكره أعماله السابقة وأن يتبرأ منها ويتعرى منها تماماً كأنها جرائم ارتكبت، فالعمل الجديد هو تطهير من العمل السابق، وأي محاولة لاستجلاب مورثات العمل السابق للعمل الحالي فهذا يعني أني كاتب أعيد نفسي وعندما أعيد نفسي سأتوقف عن الكتابة.
** لأتكلم بدقة حول مكر الأدباء، وأسأل ما هي شخوص الرواية مثلاً؟ أو الحالة الشعرية في القصيدة؟ فأنا بشكل أو بآخر لا أقطع مع أي شيء في هذا العالم، ولكن هنا أقول إنّ الكاتب هو ديكتاتور متربع على عرشه ولا يمكن إزالته عن عرشه لكي لا يسقط أدبه، فالحالات الشعرية والشخصيات الروائية والقصصية للأديب الدكتاتور يقطع ويصل بها كيفما يشاء، ويتعامل معها بجلادة، وأنا أؤكد أنه لا يمكن لكاتب أن يكتب وهو ضمن الحالة أي من الضروري أن تصبح هناك مسافة أمان بينه وبين الحالة الشعرية أو الحدث القصصي، لأن الكتابة مسافة، أما الكاتب الذي يعيش الحالة لا يستطيع أن يكتب.
فالكاتب هو جامع أرواح, فيسرق أرواح الناس وأرواح كل ما حوله من أرواح الأمكنة والأزمنة ويستثمرها في أعماله، عندما ينتهي من العمل ينفض يده منها كما ينفض رماد السيجارة، وغير ذلك هو محض كذبة يتعامل بها الأدباء لإيجاد صورة عاطفية لتقنع قراءهم بأن هذا الكاتب مازال يتواصل مع مواضيع كتابته بطريقة عاطفية.
** بمكان ما لا بد من القول بصحة هذا الكلام, فالأدب هو أحد الأسباب التي تطور اللغة ويحدد سياقات دلالاتها لكن على الأديب أن يجعل من عمله لناحية اللغة وسيلة لتحريرها من إرثها المجتمعي المحدد لأسباب سياسية, اجتماعية وغير ذلك. على الأديب أن يساعد اللغة على التحرر من أي سلطة وضمناً سلطته هو.
** اذا أردت أن أتحدث عن "الظاهراتية" فالوعي لا يكون إلا بموجود، والإنسان هو من يؤنسن الكون، فعلاقته مع الطاولة مثلاً وفق استعماله لها يؤنسنها، ولو عكسنا الأمر كيف ترانا الطاولة وكيف يرانا العصفور وغيره، ومن هنا أردت أن أكتب من عين العصفور ومن عين الصرصار أو السرطان وأن أعكس الوعي وأحرر الوجود من قياس الإنسان وسيطرته عليه وأعيد للأشياء براءتها، فهل الحجر صلب وأصم؟ من قال ذلك، فأساس التراب حجارة، ومن قال إنّ الحجر لا يحلم أن يكون تراباً؟، وهذه هي "الظاهراتية المضادة"، وهذا يعاكس ما أراده الغير كما كانت قصص "كليلة ودمنة"، رغم أنها تحتوي على كثير من هذا الكلام لكنها لم تصل للأنسنة المضادة التي اشتغل عليها، لكن من الجميل أن نرى الصرصار يتعلم القراءة، ويدرس كتب الفلسفة، ويكتب لمعلمه "تكون أو لا تكون"، ويرد على المعلم: أريد أن أكون "سباراتاكوس" ثم يقتل معلمه ويشعل حرباً نووية يسود بعدها هو وجنسه من الصراصير.
** من قال إن على الأديب أن يكون صادقاً، فقضية الأدب ليست قضية صدق وكذب وإنما هي قضية توسيع خرم الإبرة الذي ننظر للكون من خلاله.
** أنا انظر للعمل الأدبي بعد الانتهاء منه كما ينظر إليه القارئ، فأسخر منه وأتهكم على بلادتي فيه وعلى سطحيتي أيضاً، وكأنّه لا يعنيني ككاتب له، وهذه هي الطريقة الوحيدة لأضبط عملي وأصلحه، وهذا ما يجعل الكاتب والقارئ متساويين فيّ، وبعد الانتهاء مما سبق أعتبر العمل قد أنجز.
** أنا هنا أعاكس هذا القول، لأني لا أرى الشعر تمرداً ولا أرى الكلمة الشعرية تمرداً، وإنما أرى الشعر زيادة في مساحة الرؤية، وهنا يقول "أدونيس" قل قصيدة وأمض وزد سعة الأرض، فعلى الشاعر أن يزيد مساحة الكون والروح والله.
أنا أرى التمرد بأن أقف كما "امرئ القيس" وأقول "اليوم خمر وغداً أمر"، فالتمرد حالة سريعة الزوال، في حين أنّ الشعر أو القصة أو الرواية هي حالة أقرب إلى العاطفة التي تحفر مجراها ببطء وبتأمل وانتباه شديد, فتصنع الحياة.
** بالنسبة لي هدف الشعر والأدب هو اكتشاف الكون والوجود والحياة بشكل عام، فلا أملك رسالة، ولا أدعو إلى خير أو أخلاق أو سوء، فأدبي ليس أخلاقياً ولا يُعنى بالأخلاق، فليست قضية الكاتب أن يكون مبشراً أو معلماً، وإنما قضية الكاتب في العالم أن يضيء على العادي الذي استهلك بالاستعمال والخروج بأشياء جديدة وأن يغامر ليكتشف المجاهيل الهائلة حولنا فعندما أكتب عن الطاولة أريك أشياء جديدة، فما نفع أن أقول لك إن القمر جميل أو إن الزهر رائحته جميلة، وهنا هل أضيف لمعرفتك شيئاً جديداً؟ أبداً، فليس هدف الشعر ما تواضع عليه سابقاً وإنما أن يوسع الرؤية ويمدك بالإضاءة الجيدة لترى أكثر، وأن يضيء على المدفون، وأن يقدم تجربة في الحياة ومطلق الحياة دون أخذ مواقف، لأن أدب الوعظ والأغراض قد انتهى.
** هنا يوجد وجهان الأول أني أملك المعرفة القاموسية للكلمة والدلالة العلمية، والوجه الآخر الذي أضافه الأدب هو الدلالة الشعرية، وهنا سأطرح سؤالاً، أليست حركة الأجرام الكونية ومجرى "درب التبانة" بشعر؟ ومسيرة مذنب "هالي" أليست رواية؟ وغيرها الكثير، لا يوجد لفظة غير أدبية مهما كانت، لكن علينا أن نجد الأدب فيها.
** إن تحدثنا عن الإيقاع بمفهومه الكلاسيكي وإحالته إلى موسيقا ندرك بأنه يمكن أن نوقع "وقع الشيء" أي جملة بالكون حتى لو كان سقوط ماء من صنبور، إذاً ليس الايقاع حالة أو وزن أو جوهر معين له قوانينه الخاصة, فعكس ذلك يعني الغناء، فأنا عندما أكتب القصيدة لا يعنيني الوقع والوزن والإيقاع وإنما ما يهمني أن أعطي القارئ عصاً ليتعلم المشي ويكتشف الأشياء بالضرب بها من تلقاء نفسه, فلست معلماً وليس هو مريداً، فعندما يقرأ القارئ يشعر بأن القصيدة أصبحت من تجربته، ويشعر بأنه من كتبها، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا عندما اكتب بدهشة معدية كالمرض.
** توجد معلومة علمية تقول: إنّ الكائن الحي الوحيد الذي يبقى بعد الجحيم النووي هو الصرصار، في حين أن الإنسان يفنى تماماً، لذلك أقول: أليس من الأولى لهذا الكائن أن يكون معلماً للإنسان؟ أليس في البحث في آلية حمايته لنفسه من الجحيم النووي أو التلوث, ترياق يحمينا من أخطائنا العلمية؟
** الذات أكبر من الأنا، وللكلمة جبروت والكلمة لمن يجيد استخدامها, رحم يلد، وأعتقد أن الأدب أعطاني ريشاً أسود لأكون غراباً.
** لو جئنا إلى قارئ يقرأ قصيدة عمودية موزونة ومقفاة وهو لا يعرف الموسيقا والوزن، هل يستطيع أن يتلمس الموسيقا والوزن فيها؟ أي إن القارئ هو الأساس ومع ذلك يتذوق جانباً مهماً من جمال القصيدة غير الوزن والموسيقا وعليه البحث عن جرس آخر, جرس لا يتطلب الوزن والموسيقا من حيث هي أشياء محددة ومقننة بل يتطلب موسيقا الحياة أي صوت حركة الحياة على هذه الأرض وهذا هو الجرس الذي أرصع به كلماتي لأنّه كالحنجرة واحدة لدى البشر ونطقها للكلمات يختلف من كائن لآخر وهكذا أترك للقارئ حرية أن يوقع نطقه لكلماتي بجرسه الخاص.
وفي لقاء مع الشاعرة "لينا شدود" قالت: «لكل شاعر صوت، ولكل صوت هواء يحمله، ولصوت الشاعر "باسم سليمان" ذلك التركيب الخاص الذي يعتمد على إيقاع يتقطّع في صور ليعود في أخرى أكثر وضوحاً وصدقاً بقصد تدوير الفكرة ومنحها ذاك الدافع السيكولوجي مع دأبه على استخدام السخرية والتلميح في أغلب نصوصه مما يزيد من قيمة وذاكرة النص الشعرية. يتعمّد "باسم" أغلب الأحيان الغموض في الطرح، ولكنه متماسك وحازم طالما الأفق عنده مفتوح وصادق».
يشار إلى أن الأديب "باسم مالك سليمان" من مواليد عام /1971/ قرية "متبت" التابعة لمدينة "صافيتا" وهو أعزب، وله مجموعتان شعريتان هما "لم أمسس" و"تشكيل أول" ومجوعتان قصصيتان هما "تماماً قبلة" و"لسان الضفدع"، وقريباً تصدر له رواية بعنوان "نوكيا" وهو يحمل إجازة في الحقوق.