تزدهر الأغنية الشعبية في المجتمعات الريفية لأنها متنفس هذه المجتمعات، ويتميز المجتمع "الفراتي" بالقدرة على المحافظة على الأغنية الشعبية لكونها جزءاً من تراثه الثقافي.
تعتبر الأغنية "الفراتية" أنغاماً حافلة بالمشاعر والصور والألوان، وتتدفق في حياة الشعب تدفق "الفرات" في مجراه الدائم.
على الرغم من قدم الأغنية الشعبية في "دير الزور" ووفرتها وتنوع ألحانها، إلا أنها للأسف لم تدون بل تناقلها السكان بالرواية الشفوية، فهي تصف حياة الناس وتصور خوالجهم ولواعج الحب عندهم، وترسم بيئتهم من عادات وتقاليد. إنها نشيد الحب والألم، ونشيد العمل والألم والنفوس أذا طربت أو تألمت
مدونة eSyria التقت بتاريخ 27/11/2012 المعمر "خالد سليمان" الذي أشار إلى الأغنية الشعبية الفراتية بالقول: «على الرغم من قدم الأغنية الشعبية في "دير الزور" ووفرتها وتنوع ألحانها، إلا أنها للأسف لم تدون بل تناقلها السكان بالرواية الشفوية، فهي تصف حياة الناس وتصور خوالجهم ولواعج الحب عندهم، وترسم بيئتهم من عادات وتقاليد. إنها نشيد الحب والألم، ونشيد العمل والألم والنفوس أذا طربت أو تألمت».
يشير الباحث "عبد القادر عياش" في كتابه "غزليات من الفرات" إلى ميزات الأغنية الشعبية بالقول: «تمتاز بالجمالية الشعرية والعذوبة اللحنية، وشفافية الفكرة، كما أنها وفي أغلب الأحيان، راقصة تدفع سامعها إلى التحرك معها تحركاً منسجماً مع إيقاعها ونبض ألحانها، كما أن بساطة أفكارها تجعلها قادرة على التعبير عن حقيقة ما يعانيه الشاعر الفراتي وما يكابده في الحب أو الحزن أو الفرح أو الألم أو الغربة».
ويضيف: «تصنف الأغنية الشعبية من عدة نواحٍ أولها المقام، وهل هي طويلة أو قصيرة، صعبة أو سهلة، وتمتاز الأغنية بشعبيتها وبقوة كلماتها ومعناها والقصد منها، كما تتميز بالحزن نتيجة قسوة الطبيعة، وتجد في هذه المنطقة الألوان الثلاثة للغناء البدوي والريفي ولون أهل المدينة التي تطورت لهجتها اللغوية وأصبحت أقرب للفصحى حيث اشتقّت لهجتها الخاصة من لهجة أهل البادية وأهل الريف».
اشتهرت "دير الزور" بتخريج مجموعة من المطربين المحليين وأشهرهم "ذياب مشهور"، و"نبيل الآغا"، و"عماد، وفؤاد جراد"، و"محمد هزاع"، والمرحوم "إبراهيم جراد".
وعن مدى تأثير وتأثر الأغنية "الفراتية بالعراقية" يقول مدرس التربية الموسيقية الأستاذ "عبد الباسط المحمود": «هناك تشابه موجود بين الأغنيتين الفراتية والعراقية في كثير من الأوجه، بسبب قربها من العراق وصلة القرابة فيما بينهم، إلا أن الأغنية "الديرية" تحديداً ألطف لغة، وأكثر فرحاً وأدق تخصصاً، ولساننا الديري فصيح في الجيم والقاف والشين والكاف، فالأغنية العراقية، حتى في الأغاني الفرحة يسطو عليها الألم والحزن، ولقد ألف الفنان الشعبي "الفراتي" القصص الجميلة والملاحم الرائعة بلغته الشعبية وهي تتلى منغمة بمصاحبة الآلة الموسيقية الشعبية "كالربالة"، و"الشاخولة"».
مراحل عديدة مر بها نقل هذا الموروث الشعبي ابتداء من الشفاهية إلى التدوين بالتسجيلات الإذاعية أو التلفزيونية أو أشرطة الكاسيت والأسطوانات، وهنا يبين الباحث الموسيقي "سعيد حمزة" قائلاً: «ظلمت الأغنية الشعبية التراثية القديمة في موضوع التدوين فذهب الكثير منها إما ضياعاً أو أنه بقي بلا هوية، ولم تدون الأغنية الشعبية "الفراتية" سوى ما قام بجمعه الأستاذ "عبد القادر عياش" حيث يضم كتابه "غزليات من الفرات" مجموعة من الأغاني الشعبية "الفراتية"، وقد تم جمعه عن طريق الرواية الشفوية سواء من الأشخاص المعمرين أو من خلال المغنين في ذلك الوقت ولكنها فقدت الكثير منها، بعد ذلك جاءت مرحلة التسجيلات التي وثقت الكثير من الأغاني وساعدت في نقلها وانتشارها، إلا أن غياب العمل التدويني الموضوعي أثر على مصداقية المعلومات حول بعضها، ربما بسبب قلة وعينا بأهمية التدوين والتوثيق الدقيق».
معظم الأغاني الشعبية القديمة والحديثة وضعت ألحانها على إيقاعات سريعة إلا أن ذلك ليس قاعدة فارتبطت بمناسبتها، ويضيف "حمزة": «أعتقد أن العرس كان المصدر الرئيس للكثير من الأغاني الشعبية، لذلك يعزى إليه الإيقاع السريع الذي يراد منه مجاراة أفراح أهل العريس والعروس والمدعوين، وإيجاد توافق مع طقوسه من دبكات ورقصات فلكلورية ما زالت حية إلى يومنا هذا، لذلك نجد تناسب الإيقاع بحسب المناسبة التي تغنى فيها الأغاني، ولكن فيما بعد برزت ظاهرة "كاتب الأغنية" و"الملحن" كصفة فنية لصيقة ببعض الأشخاص أثرت على ارتباط الأغنية والإيقاع بمناسبة معينة، فأخذ مزاج الشاعر يطغى عليها، فيوظفها بحسب حالاته النفسية والشعورية».
ثم تابع: «أثرت البيئة "الفراتية" في الفن الغنائي "بدير الزور" نتيجة تعدد الحضارات التي سكنت وادي الفرات، ما أدى إلى تفرد المدينة بلهجة خاصة تحتوي مفردات من البداوة والريف، إضافة إلى اختلاف ألوان غناء سكان الضفة اليمنى من النهر عن الضفة اليسرى، ليصل إلينا الغناء الفراتي وهو يحمل من بيئة النهر والسهل والبادية الكثير، ويعبر عن عالم خاص بأهالي المنطقة حيث يصف فرحهم ايام حصاد القمح، وحزنهم أيام فيضان نهر الفرات، ويصور لوعة المحبين وآلام الفراق».
وجدير بالذكر أن اكتشاف التمثال الذي يصور "اورنينا" مغنية المعبد في مدينة "ماري" بدير الزور، كان أول اكتشاف لأول مغنية في العالم دليل على قدم الغناء في منطقة الفرات. وأن أبرز الآلات الموسيقية المرافقة لهذه الأغاني هي آلتا "الربابة، والشاخولة"، إلا أن دورهما انحسر بعد ظهور آلة "الأورغ"، وأصبحت هذه الآلات القديمة تستخدم في معظم الأحيان في المهرجانات التراثية ذات الطابع الثقافي السياحي.