تخضع الأشعار الغنائية للبيئات التي نشأت فيها، وأداء النوع الواحد منها يختلف من منطقة إلى أخرى، وهي تعبر بصورة أو بأخرى عن السمات العامة لشخصية مجتمع بأكمله، وقد شكلت الأغنية الشعبية الفراتية بشعرها الغنائي إرثاً ضخماً، يضاف لإرث الفرات العظيم.
وفي لقاء مع الدكتور "محمود النجرس" قال لمدونة وطن eSyria بتاريخ 21/9/2008: «الأغنية الشعبية تمتاز بصفات أساسية، فهي ذات كلمات بسيطة لكنها عميقة المعنى، وتعتمد بشكل أساسي على أدوات موسيقية بسيطة كالدّف، والمزمار، والربابة، وتمتاز أيضاً بالصدق والعفوية، فهي تلبي حاجات الإنسان ورغباته أكثر من الأغنية التي تغنى باللغة الفصحى، لأنها أقرب إلى القلب بمضمونها، وتعدد ألوانها، وأهمها: "العتابا، النايل، السويحلي، الميمر، الأبوذية"، وسأتحدث لكم عن العتابا والموليا».
إن الآثاريين عثروا في "ماري" على رُقُم تحمل نوتات موسيقية، تبين بعد دراستها أنها أناشيد تتحدث عن طقوس الخصب والرعي، والزراعة، وأنها تُعزف على أكثر من آلة موسيقية، وتم العثور على نماذج من هذه الآلات في أماكن مختلفة من منطقة الفرات
ويتابع بالقول: «تعتبر "العتابا" من أشهر الألحان التراثية في الأغنية الشعبية، أما ما تعنيه الكلمة فقد تعددت الآراء حول ذلك من قبل الباحثين، ولكننا نجد أن أقربها للمنطق أنها جاءت من العتاب والمعاتبة، وهذا ما تؤكده لنا كلمات أبياتها، فشاعر العتابا يعاتب حبيبه لما يبديه من صدٍّ وهجران، ويلوم صديقه على جفائه، وهذا اللون من الغناء هو لون بدوي محض، أدَّاه الإنسان الفراتي عندما بدأ يستقر على ضفاف الأنهار تاركاً حياة التنقل والترحال معتمداً بمعيشته على الزراعة، فهو بالتالي حصيلة لمخزون ذلك الإنسان من أغاني الصحراء والأغاني الريفية التي بدأ يتقنها بعد استقراره بجانب الأنهار، وهي تغنى مع الربابة حسبما كان شائعاً، ويجوز غناؤها دون الربابة أي إنها تقرأ كالشعر، ولاحقاً أصبح بالإمكان غناؤها مع الفرقة الموسيقية، وتتميز بأنها لا تغنى بشكل جماعي بل بشكل إفرادي بحيث تنبع من قلب شاعرها ومغنيها، وتتم مرافقتها بالغناء بألوان أخرى مثل "النايل، والسويحلي"، حتى يرتاح المغني من أدائها لإضفاء نوع من البهجة والسرور على جلسة غناء العتابا، ومن الممكن مرافقتها أيضاً ببعض أنواع الدبكات مثل دبكة "الميمر" و"الهلابا"».
ثم أضاف: «طرقت العتابا أكثر أنواع الشعر العربي حيث شملت المدح، والوصف، والغزل، والفخر، وعتاب الدهر، ويعتمد بيت شعر العتابا على فن بديعي جميل هو "الجناس" بالإضافة إلى "إجازة البليغ"، وقلما نجد بيتاً منها إلا وفيه صورة من صور البلاغة الشعرية، والبيت الشعري فيها يتألف من أربعة أشطر، الثلاثة الأولى منها متحدة القوافي في اللفظ، مختلفة في المعنى، أما الشطر الرابع ويسمى "قفلة العتابا أو الرباط"، فيجب أن ينتهي بالألف والباء، أو الألف الممدودة، أو الألف المقصورة، ويجوز أن ينتهي بقوافٍ أخرى، على الألف والهاء المهملة، أو التاء المفتوحة، وإن كان بشكل قليل، وهذه بعض من نصوصها:
يـَهَلْ دخانـكم عالج بلا نار
وهـواكم يلسع العاشق بلا نار
أنـا الـورِّيت بثيابي بـلا نار
انسلب عظمي من حَدْرِ الثياب.
أريد أبجي على روحي وناحي
بعـيني ضاكـت الدنيا وناحي
أخوي الما نفعني بيوم وأنا حي
شلِّي بيه يـوم ردَّات الـتراب».
وعن الموليا يحدثنا قائلاً: «هي من أشهر فنون الشعر والغناء الشعبي في الوطن العربي، وتصنف بأنها البرزخ بين الشعر الشعبي والفصيح، فقد جذبت اهتمام مؤرخي الأدب العربي ودارسيه باعتبارها واحدة من الفنون الملحَّنة التي انحرفت عن الفنون الغنائية الأخرى وصار لها طقسها الخاص والمتميز، حيث مازالت أغانيها خالدة وعالقة في الأذهان، ويوجد لها عدة طرق في الكتابة واللحن والأداء، ويعتقد الكثيرون خطأً أنها لا تكتب إلا بطريقة واحدة هي التي تكون مؤلفة من أربعة أشطر، وتسمى بيتاً».
وعن أصلها ونشأتها يقول: «الآراء مختلفة حول نشأتها، فمن الباحثين من يقول بأنها نشأت في العهد الأموي في "واسط" العراق، اخترعها الواسطيون العرب فتعلمها عبيدهم ومواليهم الذين كانوا يعملون في حقولهم، يغنونها عند صعودهم إلى رؤوس النخيل لقطف ثمارها، وينهون غناءهم بكلمة يا موليا، إشارة إلى سادتهم الجدد من العرب، فغلب عليها هذا الاسم واشتهرت به، وآخرون ينسبونها إلى الأنباط الذين سكنوا سواد العراق، ومشارق بلاد الشام، فعندما خبا نجم دولتهم وأصبحوا فلاحين لدى سادة المنطقة الجدد من العرب بعد الفتح الإسلامي، كانوا يغنونها أثناء عملهم بالحقول وينهونها بكلمة يا مواليا، ومنهم من ينسبها لتتالي القوافي المتشابهة في الشعر العربي مستندين بهذا الرأي لشهادة "ابن خلدون" في مقدمته، حيث كان لعوامِّ "بغداد" نوع من الشعر الملحون يسمونه المواليات، إذ يقول:
طرقت باب الخبايا، قالت من الطارقْ
فقلـتُ مفتونٌ لا نـاهبٌ ولا سـارقْ
تبسمَتْ فلاح لـي من ثغـرها بـارقْ
ورجعت حيران في بحر أدمعي غارقْ
ومما سبق نجد أن الموليا جنس أدبي وليد عصر امتزاج الثقافات، واختلاط الأنساب، وتقهقر اللغة العربية الفصحى، أمام انتشار اللهجات العامية».
وعن أشهر من كتبها في محافظة "الرقة" وأشهر من غناها ردَّ "النجرس": «سيد الموليا في محافظة "الرقة" بلا منازع هو المرحوم "محمد الذخيرة" والد الشاعر "محمود الذخيرة"، وأحفظ له الجميلَ من شعر "الموليا"، حيث يقول بإحداها:
(يـهيم دليلي نقيـط البوم بنعايا
سهران ليل الدجى سهران بنعايا
يوم الملاقى اسقانيَ الزين بنعايا
اشربت يوم خذاني النوم عشويه).
أما ابنه الشاعر الكبير "محمود الذخيرة" فلقد أتحف هذا اللون بقصائد جميلة أذكر منها قوله:
(لي فاض بحر الهوى والزين ما لاحي
حتَّ الـعذيبي تغـير حِـين ما لاحي
أركض وراهن وأصيح ملاح يا ملاحي
كلـكن حوارم ترا مـن غيرها هـيّا).
وبرز في هذا اللون شعراء أضافوا روحاً جديدةً للموليا، أذكر منهم الشاعر "خلف الكريدي" الذي يقول في إحدى قصائده:
(أكتب وأدز بـَلوَرق سلام لـعيونك
إن جاد ليلى صدقت لصير مجنونك
إثنين غصـبن علي دايـم يذكرونك
واثـنين دوم تهـشل إحـروفهن ميَّا).
أما مطربو هذا اللون من الغناء الشعبي في محافظة "الرقة" فهم كثيرون، ولكن من أبرزهم نذكر المطرب المرحوم "محمد الحسن" وشقيقه المطرب "حسين الحسن"».
ويذكر الباحث "عباس الطبَّال" موضحاً قِدَم وجود الموسيقا في المنطقة نقلاً عن جريدة "الفرات" بعددها رقم /964/ تاريخ 16/12/2007قوله: «إن الآثاريين عثروا في "ماري" على رُقُم تحمل نوتات موسيقية، تبين بعد دراستها أنها أناشيد تتحدث عن طقوس الخصب والرعي، والزراعة، وأنها تُعزف على أكثر من آلة موسيقية، وتم العثور على نماذج من هذه الآلات في أماكن مختلفة من منطقة الفرات».