لا تكاد مذكرة من مذكرات رجالات سورية تنسى تسجيل حادثة أو أكثر احتضنها هذا القصر العريق، فالأقدار اختارت أن يكون تاريخ إنشاء "قصر المهاجرين" متزامناً مع ولادة سورية بمفهومها الحديث.

إنه قصر "المهاجرين" أو كما يسميه الدمشقيون "القصر الجمهوري القديم"، والذي يحمل أسماء عدة مثل قصر "خورشيد" أو "قصر ناظم باشا" نسبة للوالي العثماني الذي بناه، ويعد القصر بحد ذاته معلماً عمرانياً من معالم دمشق البارزة (فمساحة حديقته تبلغ عشرة آلاف متر مربع)*.

عندما قدم "خورشيد باشا" من مصر أحب الشام وطاب له نسيم منطقة المهاجرين فاشترى مساحات واسعة من الأراضي التي عرفت فيما بعد باسم خورشيد أول وخورشيد ثان، اقترن بإحدى السيدات السوريات، وتبنى ابنها الدكتور "حمدي الإدلبي" (**) وعاش في قصره وآلت إليه ملكية القصر في أوائل العشرينيات من القرن الماضي

"eSyria" التقى الشاعر "شوقي بغدادي" والذي زار هذا القصر في خمسينيات القرن الماضي والذي تحدث عنه بالقول: «في الحقيقة مضى وقت طويل منذ دخولي لذاك القصر آخر مرة، ولكني إلى اليوم أتذكر كيف أتيحت لي الفرصة للدخول خلال مظاهرة طلابية انطلقت من مدرسة التجهيز الأولى- أو كما تسمى اليوم مدرسة جودت الهاشمي- ووصلت إلى أبواب القصر الذي كان سكناً للرئيس شكري القوتلي، وهناك احتشد الطلاب وتم الاتفاق على انتخاب خمسة من المحتجين للقاء الرئيس وأنا كنت منهم، وأتذكر كيف كان صالون الاستقبال فخماً، وكيف قدم الرئيس من مكتبه في طابق العلوي برفقة الأديب "فؤاد الشايب" –مدير مكتبه الصحفي آنذاك- وتم الاستماع لمطالبنا قبل أن نعود إلى رفاقنا في الخارج».

الواجهة الجنوبية لقصر "المهاجرين"

أنشئ "قصر المهاجرين" أواخر العهد العثماني كمقر لوالي سورية "حسين ناظم باشا"، وبعدها بسنوات قليلة شهد تتويج الأمير فيصل ملكاً على سورية، وخلال فترة الانتداب الفرنسي اتخذه الرئيس "شكري القوتلي" كمقر له أيضاً، ومن ثم أعلنت فيه الولادة الثانية لسورية عند الاستقلال، وكان مقراً لمعظم الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم سورية بعد الاستقلال، لحين الولادة الثالثة لسورية بعد انفصالها عن مصر وبقي يستعمل كمقر رسمي للرئاسة السورية حتى عام /1978/ تاريخ الانتهاء من بناء القصر الجمهوري الحالي*.

قصة إنشاء "قصر المهاجرين" لم تكن تقليدية فقد ذكرها المؤرخ "علي الطنطاوي" في كتابه (دمشقَ صور من جمالها وعبر من نضالها) وأشار فيها إلى أمانة الوالي العثماني الذي تسلم ولاية سورية في عام /1895/، والذي أمر ببناء القصر على نفقته وأظهر فيه حسن اختياره للمكان وتقول القصة: «عندما تولى "حسين ناظم باشا" أيالة- ولاية- سورية للمرة الأولى عام 1895م نزل في دار البارودي- والد فخري البارودي- الواقعة في حي القنوات نهاية زقاق تحت القناطر.

صورة تظهر القصرين المتجاورين "قصر العابد" و"قصر المهاجرين"

ليبيع داره في اسطنبول فيما بعد وليطلب من شفيق المؤيد العظم أن يشتري له قطعة أرض في حي المهاجرين، لما له من طيب المناخ، ونقاء الهواء والإطلالة الجميلة على دمشق الفيحاء، فما كان من "شفيق بيك" إلا عرضها على الوالي كهدية لكنه رفض العرض ودفع قيمتها خمسين ليرة ذهبية في حين قدر الخبراء قيمتها بعشرة ليرات ذهبية فقط، ليقيم عليها فيما بعد قصره المعروف اليوم بالقصر الجمهوري، وقد كان القصر فخماً له حدائق واسعة، وقد أمر الوالي بغرس الأشجار في السفوح المقابلة للقصر، من كافة أطرافه، وكان في الحديقة أنواع مختلفة من الورود والثمار».

شيد القصر على الطراز المعماري الأوروبي، بالقرب من ساحة آخر خط الترام، ساحة ذي قار اليوم، كما سميت الطريق الرئيسة التي تخترق حي المهاجرين شارع ناظم باشا، وعرفت بطريق السكة نسبة إلى سكة الترام التي امتدت عبرها عام 1913م، ومع انتهاء فترة ولاية الباشا الأولى عام 1907م، ونقل الباشا إلى اسطنبول اضطر إلى بيع القصر إلى مهندسه المصري الجنسية "خورشيد وهبي" ومنذ ذلك الوقت تحول اسم القصر من قصر "ناظم باشا" إلى "قصر خورشيد" وعن ذلك أشار "بدر الدين الشلاح" في مذكراته إلى المهندس "خورشيد بك المصري"- ذلك الرجل النادر- الذي ارتبط اسمه بتاريخ دمشــق، وأضاف "الشلاح":

البوابة الرئيسية للقصر المطلة على طريق "سكة المهاجرين"

«صادف أن "خورشيد بك" زار دمشق عام /1322 للهجرة/ عام /1904/ وكان الوالي العثماني ناظم باشا بحاجة إلى المال لتجهيز ابنته في اسطنبول فعرض قصره للبيع (وهنا تجدر الإشارة إلى أن المؤرخ قتيبة الشهابي يؤرخ أن الذي هندس القصر هو خورشيد المصري) وأعجب خورشيد بهذا القصر الدمشقي واشتراه من ناظم باشا بعد أن نافسه عليه آل العظم وآل الشمعة، ولكنه تمكن من شرائه بخمسة آلاف ليرة عثمانية ذهبية ولما علم أن منافسيه دفعوا أكثر من ذلك، قدم ألف ليرة أخرى في صرّة من الأطلس وقدمها لناظم باشا على أنها نقوط لكريمته لمناسبة زفافها في اسطنبول».

ويروي علي الطنطاوي أن هناك حادثاً طريفاً يدلُّ على جانب من أخلاق "ناظم باشا" وهو أنه بعد عزله عن ولاية دمشق أراد بيع قصره ففاوضه المهندس الشهير "خورشيد باشا" على شراء القصر بخمسة آلاف ليرة ذهبية ووعده الباشا بذلك ثم جاء "مصطفى باشا العابد" فدفع له سبعة آلاف ليرة ذهبية ثمناً للقصر، فقال له ناظم باشا: لقد أعطيت المصري وعداً، فقال له العابد: ولكن البيع لم يُسجل في الطابو، فقال "ناظم باشا" عندها كلمته الشهيرة: ناظم كلامه طابو (وذهبت مثلاً).

بعيد الحرب العالمية الأولى قام "خورشيد باشا" برهن القصر لتأمين مبلغ من المال للدخول في مشروع تجاري كبير في حوران ولكن هذا المشروع خرّب بفعل ثورة حدثت في المنطقة مما جعل "خورشيد باشا" يستعين بربيبه الطبيب المعروف آنذاك "حمدي الإدلبي" وأوكل إليه توفير المال لفك الرهن عن القصر، وفعلاً عمل "الإدلبي" خلال السنوات اللاحقة بجهد كبير ودفع أقساط الرهن، وتحولت ملكية القصر إلى الدكتور "حمدي" فيما بعد، وعن ذلك تقول السيدة "أيمن مصطفى العابد"- وهي ابنة السيد "مصطفى باشا العابد"- لموقع "eSyria":

«عندما قدم "خورشيد باشا" من مصر أحب الشام وطاب له نسيم منطقة المهاجرين فاشترى مساحات واسعة من الأراضي التي عرفت فيما بعد باسم خورشيد أول وخورشيد ثان، اقترن بإحدى السيدات السوريات، وتبنى ابنها الدكتور "حمدي الإدلبي" (**) وعاش في قصره وآلت إليه ملكية القصر في أوائل العشرينيات من القرن الماضي».

شهد قصر "خورشيد" عام /1920/ إعادة ترميم عن طريق المرمم الشهير "محمد علي الخياط" الملقب "أبو سليمان" (***) الذي قام بزخرفة إحدى القاعات بكتابات عربية ونقوش مرسومة بألوان مشابهة للفسيفساء والتي سميت فيما بعد قاعة العرش، والتي استضافت تتويج الأمير "فيصل بن الحسين" ملكاً على سورية خلال حفل بسيط وذلك قبيل حفلة تتويج الفيصل في قصر البلدية بساحة المرجة في "8/3/1920" ليصبح هذا القصر مقراً للملك إلى أن غادر البلاد إثر معركة ميسلون ودخول البلاد تحت حكم الاحتلال الفرنسي، ظل القصر على حاله هذه لغاية "24/8/1922" حين أعيد إلى مالكه الأصلي الدكتور "حمدي الإدلبي" الذي أقام فيه مع عائلته لغاية عام 1933م، لتسأجرته منه المفوضية العراقية.

ومع تولي الرئيس "شكري القوتلي" رئاسة الجمهورية عام 1943م، قامت الدولة بالتفاوض مع المفوضية المذكورة ليتم الاتفاق على تبادل مقراتهما، إذ كانت الدولة تشغل قصر "مصطفى باشا العابد" الذي يلي قصر خورشيد من الجهة الغربية المجاورة لساحة آخر الخط- والذي كان يسكنه الرئيس "يوسف العابد" والرئيس "تاج الحسني"-؛ وهكذا تمت عملية التبادل بين الطرفين للقصرين، وأصبح القصر مقراً للرئاسة السورية بينما كان الجنرالات الفرنسيون يسكنون القصر الموجود في العفيف والذي تشغله اليوم "سفارة فرنسا" في دمشق.

وكان القصر مقراً لرؤساء سورية وفيه أقام رئيس دولة الوحدة "جمال عبد الناصر" عدداً من المناسبات الرسمية، وكذا سكن القصر عدد من رؤساء سورية بعيد الانفصال لحين الانتهاء من بناء القصر الجمهوري الجديد وانتقال الرئيس "حافظ الأسد" إليه عام /1978/.

زار القصر العديد من الشخصيات العربية والعالمية من مختلف الاختصاصات، فالابتعاد عن الزيارات الرئاسية الرسمية التي استضافها القصر بحكم وظيفته، استضاف القصر على سبيل المثال الرياضي العالمي "محمد علي كلاي" والسيدة "أم كلثوم"، والأمير البريطاني فيليب "دوق إدنبره" أثناء زيارته لسورية عام /1950/ وغيرهم الكثير..

(*) تم التأكد من صحة المعلومات من الدكتور "سامي مبيض" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة القلمون، كما تم الاستعانة بالمؤرخ "عماد الأرمشي" في المعلومات والصور.

(**): الدكتور "حمدي الإدلبي" وهو من ابرز أطباء دمشق مواليد عام 1899 م، عمل على مدار سنوات عدة للوفاء بديون خورشيد المصري لفك الرهان عن قصره ويقول المهندس خليل الفرا: (وكان الدكتور حمدي شديد الامتنان لأبيه الروحي (خورشيد بك) بالغ الاعتزاز به فعكف على العمل المرهق للوفاء بالديون وفوائدها طوال سنوات حتى استخلص قصر خورشيد بك وأصبح ملكا له ولأسرته، وفي هذا القصر تم في عام 1929 زفاف الدكتور حمدي على الأديبة المعروفة ألفة عمر باشا، توفي الدكتور حمدي الادلبي في آب من عام 1978 م.

(***): محمد علي الخياط الملقب "أبو سليمان": رسام ونجار وخطاط ومزخرف سوري، ولد في دمشق- حي العمارة- لأسرة فنية تعمل في تصنيع مادة الخشب وزخرفته وتزيينه، وعمل برفقة أولاده في الإشراف على زخرفة عدد من القصور والمباني الشهيرة في سورية وخارجها، ولعل أهمها هو القصر الجمهوري القديم والبرلمان السوري (مجلس الشعب).

المصادر:

عبد العزيز العظمة: مرآة الشام، دارالريس، لندن، 1987، ص53.

علي الطنطاوي: دمشق صور من جمالها وعبر من نضارتها، دار الفكر، دمشق، 1959، ص157.

يوسف الحكيم: سورية والعهد العثماني، 3أجزاء، ج1، دار النهار، بيروت1966، ص56.

ذكريات السيدة الأديبة ألفت عمر باشا الأدلبي: زوجة وريث القصر؛ التي أقامت في القصر من عام 1923-1939.

قتيبة الشهابي: دمشق تاريخ وصور، مؤسسة النوري، دمشق 1990، ص399.

بدر الدين الشلاح: المسيرة التجارية، مطبعة ألف باء الأديب، دمشق 1992، ص 341-344.

كتاب "فارس الخوري.. حياته وعصره" لـ"جورج حداد وحنا خباز" الصادر في بيروت عام 1952.

مقابلة هاتفية مع المهندس خليل الفرا 23/4/2012.