يعتبر "سهل جومه" من مناطق الاستيطان القديمة جداً والدائمة فقد مرت عليه العديد من الأمم والإمبراطوريات التي خلفت آثارها في بطون التلال المنتشرة في أرجاء السهل قبل أن تزيل البعثات التنقيبية التراب عنها.

للحديث حول السهل وأهم المواقع الأثرية فيه التقى موقع eAleppo الدكتور "محمد عبدو علي" وهو مؤلف للعديد من الدراسات والكتب حول منطقة "عفرين" فقال مبتدئاً كلامه حول معنى كلمة "جومه": «"جومه" هو اسم سهل واسع في منطقة "عفرين" ويعتبر امتداداً فرعياً لسهل العمق نحو الشمال الشرقي، يعبره "نهر عفرين" من شماله إلى جنوبه بطول أكثر من 35 كم ويعتبر من مناطق الاستيطان القديمة جداً.

يعد "سهل جومه" من مناطق الاستيطان البشري القديمة ويتوزع فيه عدد من التلال الأثرية والمواقع التاريخية أهمها: "قلعة الباسوطة" و"معبد عين دارا الأثري" ومدينة "جنديرس" وغيرها

ورد اسم "جوم" أو "جومه" في عدد من المصادر التاريخية التي أرّخت لعهود ما بعد الميلاد ومن أبرزها: ذكر المؤرخ البطريرك "ميخائيل الكبير" اسم "الجومه" في تاريخ يعود إلى العام 633م ، وجاء في كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري أنّ خيول "أبي عبيدة بن الجراح" فتحت قرى "جومه" في العام 637م، كما ذكر "ابن شداد" "الجومه" بأنها كورة والكورة تقسيم إداري إسلامي، أما "شرفخان البدليسي" فذكر اسم "جوم" في العام 1596م، وعلى ضوء ما ورد أعلاه يكون أقدم ذكر لاسم "جومه" أو "جوم" صادفناه في المصادر التاريخية يعود إلى العام 633م».

قلعة الباسوطة

وحول معنى كلمة "جومه" قال: «جاء في "المعجم الوسيط العربي" أنّ "جام" تعني الكأس و"جومه" جمعها، أما "خير الدين الأسدي" فقد كتب نقلاً عن الأب "شلحت" قائلاً بأنّ "جوم" أو "جوما" في الآرامية بمعنى "جزار" أو "حلاق" أو "حجام"، ويقول "عبد الله" الحلو بأنّ "جومه" اسم سرياني من "جوما" وهي كلمة تُستخدم للتعبير عن بعض أنواع الحبوب كالبقول والترمس، أما أنا فأعتقد بأنّ اسم "جوم" بالمعاني التي ذُكرت هي بعيدة من أن تكون اسماً جغرافياً لمنطقة سهلية وأرى بأنها فُسرت بأسلوب المقاربة اللغوية ليس إلا ولذلك جاءت المعاني متباينة لدى هؤلاء المفسّرين.

أما إذا بحثنا عن معنى الكلمة في الكردية فإننا نصل إلى ما يلي: عندما ينغرز شيء صلب في مادة طرية يُقال له "جوم بو" أي أنغرز وأن كل مادة طرية قابلة للتشكل يقال لها ولعملية التشكل "دبه جومك"، كما أنّ كلمة كوم GOM تعني الحفرة والمكان المنخفض وGOM هي نفسها "جوم" أو "جومه".

معبد عين دارا

مما ذكر يمكننا أن نلاحظ وجود توافق بين شكل "سهل جومه" من حيث التضاريس والخصائص الجغرافية وبين معنى الاسم بالكردية فهو سهل انهدامي المنشأ وغائر وكثير الانخفاض بالنسبة للمرتفعات الجبلية المحيطة به ولا يتجاوز ارتفاعه عن سطح البحر في قسمه الجنوبي الغربي عن بضع عشرات الأمتار وبسبب الفيضانات الكبيرة لنهر "عفرين" ووجود الكثير من الينابيع في أرجاء السهل كانت تتشكل فيه أماكن موحلة ومستنقعية كثيرة تبقى في الكثير من أرجائها معظم أيام السنة وهكذا أعتقد بأنّ الخصائص الطبيعية لسهل "جومه" تتناسب تماماً من حيث المعنى في الكردية مع كلمة "جوم" أو "جومه"».

وتابع حديثه: «يعد "سهل جومه" من مناطق الاستيطان البشري القديمة ويتوزع فيه عدد من التلال الأثرية والمواقع التاريخية أهمها: "قلعة الباسوطة" و"معبد عين دارا الأثري" ومدينة "جنديرس" وغيرها».

تل جنديرس الأثري

وحول "قلعة الباسوطة" يقول: «بُنيت القلعة على تلة صخرية كبيرة وسط قرية "الباسوطة" ورغم زوال آثارها إلا أنّ السكان ما زالوا يسمونها بالقلعة التي ليس لبنائها تاريخ معروف، وجاء أول ذكر لها في كتاب "تاريخ حلب" لمحمد بن علي العظيمي 1090 -1161م أثناء ذكر أحداث جرت في العام 1145م وواقعة حربية جرت لصاحب "الباسوطة" ولكن بدون ذكر شيء عن صاحبها ولا عن القوم الذي كان يعيش فيها أو الدولة التي كانت تتبعها.

في عهد الدولة الأيوبية أي خلال القرن 12 وبداية القرن 13 سلم الأيوبيون ناحية "القصير" ومنطقة "جومه" شمالاً للأسرة المندية الكردية واستمر الأمر في هذه المنطقة بيدها حتى بداية القرن 17م، ويبدو أنّ أهمية القلعة قلّت كثيراً في أيام "ابن الشحنة" 1402 -1485م ليقول عنها في "الدر المنتخب" بأنّ الخراب استولى على "حصن باسوطة" وأصبحت قرية لا دافعة ولا مانعة.

في القرن 16 أعيد ترميمها على يد الأمراء الأكراد وحكمتها في القرون الثلاثة التالية عائلات كردية معروفة مثل: "آل روباري" و"آل كنج" إلى أن أنهت خطط السلطان "محمود الثاني" نفوذ معظم العائلات والحكام المحليين فآل مصير القلعة للإهمال والخراب».

وحول "معبد عين دارا" يقول الأستاذ "مروان بركات" مؤلف كتاب "عفرين عبر العصور" -2008: «كشفت الأعمال التنقيبية في موقع "تل عين دارا" بأنّ الإنسان عاش في الموقع منذ أكثر من 8000 عام قبل الميلاد حين استوطن واستقر الإنسان في القرى الزراعية هذا في التل الصغير الواقع على بعد 100 متر جنوب التل الكبير الذي أكدت المكتشفات الأثرية أن الأبنية فيه تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد حيث كانت القرية كانت مزدهرة خلال الفترات التاريخية المختلفة التي سبقت الميلاد منها الفترة الحثية والحورية والميتانية والآشورية والميدية واستمرت الحياة فيها حتى 1086م حينما هُزم الجيش البيزنطي من قبل السلاجقة الذين أحرقوا القرية البيزنطية بشكل كامل حتى لا يبقى لها أثر فيما بعد.

على قمة التل في الطرف الشمالي يقع معبد بمنتهى الجمال العمراني وهو مبني من الحجر البازلتي الناعم ونحتت جميع واجهته بأشكال نافرة شديدة البروز وتتضمن أسوداً مجنحة أو رؤوس امرأة متقابلة ومتدابرة بحسب مكانها وتعلو الرؤوس عصابات مزينة بوردة في وسطها ومنتهية بقرنين كبيرين فوق الجبهة وتعتبر من أجمل المنحوتات التي عرفها الفن النحتي في الشرق القديم، وكشفت البعثات التنقيبية فيها أيضاً عن نقود نحاسية وفضية وذهبية تعود لمختلف العصور وبعض التماثيل للآلهة الحورية والحثية والميتانية والميدية كما كشفت الحفريات عن ثور يقوده رجل عملاق وأسود كبيرة تعود إلى القرن 13 قبل الميلاد.

الإله الموجود في "عين دارا" بحسب ما يقوله الأستاذ "موريس دونان" رئيس بعثة التنقيب في التل في مقالة له في مجلة "الحوليات الأثرية السورية" هو إله الشمس الذي يظهر من وراء الجبل أو على الأرجح أنه إله الجبال أي "تيشوب"».

وأخيراً وحول موقع "تل جنديرس" يقول الأستاذ "عبد الله حجار" مستشار جمعية العاديات للفترات الكلاسيكية: «نقبت في التل بعثة ألمانية سورية بإدارة "ديتريش زورنهاغن" و"أنطوان سليمان" واستمرت الأعمال التنقيبية بين عامي 1993 -1999م وتركّزت أعمال البعثة الألمانية على الشمال والشمال الغربي من التل حيث وجدت قواعد أعمدة بازلتية ربما كانت لمعبد من الألف الثاني قبل الميلاد وفترة البرونز الأوسط كما وجدت لقى ونقود وأسرجة معدنية وفخارية من الفترات الهلنستية والرومانية والبيزنطية، وظهرت مع البعثة السورية في القسم الشرقي من التل جدران بسماكة 3،25م وغرف متطاولة يشبه فخار "آلالاخ" وملامح الألف الثالثة قبل الميلاد.

كما وُجد كنز من اللقى البرونزية والأسرجة والنقود المعدنية تعود إلى القرنين 5-6 م في موقع مركز البريد الذي يبعد 330م إلى الشمال من التل ومن المعروف أنه كان هناك دير شهير في "جنديرس" من القرن 4م».

يذكر أن قرية "الباسوطة" تبعد نحو 10كم جنوب مدينة "عفرين" بينما يبعد "معبد تل عين دارا" نحو 7كم جنوب مدينة "عفرين" أيضاً، أما "تل جنديرس" فهو يقع إلى الغرب من مدينة "عفرين" بنحو 20كم.