إن كانت الحضارة تعني العناية بكل المفردات التي من شأنها أن تجعل الحياة أكثر جمالاً ويسراً، فإن أقدم الحضارات لابد أن تكون قد اعتنت عناية خاصة بالجسور لما لها من دور كبير في تجميل وتيسير تلك الحياة.

للحديث عن علاقة أهالي "دير الزور" بالجسور التقينا السيد "زهير العلي" أحد أبناء "دير الزور" الذي حدثنا عنها بالقول: «لم تكن "دير الزور" قبل عدة عقود تحتوي على هذا الكم الكبير من الجسور، فقد كنا نعرف ونحن صغارا "الجسر المعلق " والجسر "العتيق" وكلا الجسرين يتمتع بمكانة كبيرة في داخلي لما له من ذكريات هامة فقد ارتبط الجسر دائماً بنهر الفرات الذي ما كان أحد في المدينة يتمنى مفارقته إن زاره، فالجسر يعطيك الوقوف فوقه فرصة لتأمل النهر بصورة أفضل ولهذا فقد كان ملاذ الحائر وأنيس العاشق ومقصد كل من أراد التمتع بالطبيعة، وهذه العلاقة الحميمية مع الجسور هي التي دفعت الكثيرين للتحسر بل للبكاء على الجسر "العتيق" حين أفاقوا منذ سنوات على فاجعة هبوطه».

فعرج إن أتيت الدير يوماً/على الجسر القديم بلا وناة ولا تنسى الكبير وقد تسامى/بأعمدة المشابك شامخات فليل "الدير" بالجسرين سحر/ولا سحرٌ كأنهار الحياة

ولعل المصادر التاريخية تشير إلى قدم الجسور وأهميتها في منطقة "الفرات" ومن ذلك ما أشار إليه الآثاري "يعرب العبد الله" بالقول: «شهد "الفرات" اهتماماً كبيراً من قبل الحضارات التي قامت على ضفافه فاستغل أفضل استغلال في الري والزراعة والنقل النهري وقد بنيت عليه عبر التاريخ الكثير من الجسور حيث يعد الجسر الذي أقيم على نهر الفرات عام 1150ق م بين "بابل" والجزيرة "الفراتية" بطول 200 متر أول جسر في العالم وقد تم بنائه من الخشب والآجر والحجر الطيني».

الأستاذ زهير العلي

للتعرف على الجسور المقامة حالياً في "دير الزور" على "الفرات"، وأهمية تلك الجسور التقينا المهندس المعمار "عبد السلام آغي" والذي أفادنا بالقول:

«تكمن أهمية الجسور في "دير الزور" في عدة مجالات فبعضها تغلب عليه الأهمية الاقتصادية مثل جسري "حطلة" و"كنامة" لكونها تربط بين "الدير" وجزء من ريفها و"الدير" ومدن شمال سورية، وتغلب على بعضها الناحية الجمالية والسياحية وأكثر ما تبدو هذه في "المعلق" الذي قد يكون أول منشأة معمارية مشدودة بأسلاك معدنية ليس في سورية فحسب بل في منطقة الشرق الأوسط، أما بقية الجسور مثل جسر "محمد الدرة" فهي تتمتع بأهمية وظيفية وجمالية لأنها مصممة بشكل مميز وتعتبر نقاط لعبور المشاة بين عدة مناطق على ضفاف النهر، وعموماً يبلغ عدد الجسور في "دير الزور" 26 جسراً منها 14 جسرا على نهر الفرات، و12 جسراً على الوديان».

الأستاذ عامر النجم

وحول أقدم تلك الجسور وأهمها التقينا الباحث "مازن شاهين" عضو لجنة حفظ التراث في المدينة الذي أفادنا بالقول: «أقدم تلك الجسور وأهمها الجسر "العتيق" وهذا الجسر تم بناؤه عام 1897م وكان سقفه من الخشب حتى عام 1924م حيث تم استخدام الاسمنت المسلح، ومن الحوادث المؤلمة في ذاكرة أهالي "الدير" المرتبطة بهذا الجسر كانت عام 1990 إذ تم هبوطه بسبب عمليات توسيع مجرى النهر، وتم بناء جسر جديد مكانه وسمي "جسر البعث".

-"الجسر المعلق" وهو ثاني الجسور من حيث القدم ولكنه أولها من حيث الأهمية حيث قام متصرف "دير الزور" "جمال بيك الجبان" في عام 1914م ببناء جسر مدعم من حجر الكلس ووسطه سلسلة سفن خشبية تسمى "دويات" بمساعدة نجارين حضروا من "الموصل"، ولكن الماء أدى إلى إتلاف بعض خشبه وتوقف العبور عليه وقتها.

الجسر المعلق

وعاد الناس لاستخدام السفن من أجل العبور، وعندما أراد الفرنسيون بعد احتلال المنطقة تسهيل نقل معداتهم من وإلى الجزيرة الفراتية عملوا على هدم الجسر عام 1925م ووضعوا أسساً لجسر جديد مكانه هو الجسر "المعلق" الحالي، واستمرت عملية بنائه ما يقارب ست سنوات حيث انتهى بناؤه في آذار 1931 ميلادي، وقد تعرض الجسر لمجموعة من التحسينات على مدى السنوات السابقة».

ومن الجدير بالذكر أن جسور "الدير" كانت حاضرة بقوة في شعر أبناء الفرات وأدبهم ومن ذلك ما قاله الشاعر "توفيق قنبر" في إحدى قصائده:

«فعرج إن أتيت الدير يوماً/على الجسر القديم بلا وناة

ولا تنسى الكبير وقد تسامى/بأعمدة المشابك شامخات

فليل "الدير" بالجسرين سحر/ولا سحرٌ كأنهار الحياة».

أما فيما يتعلق بالفن التشكيلي فمن النادر أن تجد فناناً في "دير الزور" لم يرسم أو يحاول ان يرسم هذين الجسرين "المعلق" و"العتيق" وعن ذلك حدثنا الفنان "وليد الشاهر" بالقول:

«إن الفنان يتأثر أكثر من غيره بالبيئة المحيطة ويتواصل معها ويعايشها بكل مكوناتها من مادية وروحية ونهر الفرات والجسور المبنية عليه جزء من ذاكرتنا، وبالتالي لابد أن يجد الفنان نفسه أمام لوحةٍ ما يرسم جسراً من جسور "الدير"».

ومن الجسور الهامة الأخرى ما ذكرها لنا الباحث "عامر النجم" بالقول: «من جسور "دير الزور" الهامة وإن لم تصل إلى أهمية "المعلق والعتيق" جسر "حطلة"، ولهذا الجسر عدة تسميات منها جسر "السياسية" أو جسر "دير الزور" الكبير، وهو جسر بيتوني يربط بين ضفتي "الفرات" واللتين تسميان بالعامية "الشامية والجزيرة".

وهناك أيضاً جسر "الحرية"، "كنامة"، الشهيد "محمد الدرة"، "الثورة"، الشهيدة "إيمان حجو"، "المنظم المائي"».