في أسواق المدينة القديمة في "حلب" تجولنا وسألنا عدداً من التجار وأصحاب المحلات عن أشهر وأقدم تاجر حلبي في المدينة لنتعرف عليه ونعرف عن تاريخ الأسواق التجارية وحركتها وأجوائها المختلفة منذ القدم ، وكان الاجماع من قبل تجار السوق أن نلتقي بالحاج "محمد مصفي العسل" الذي يملك محلاً تجارياً قديماً في "سوق الحراج" فهو الأكبر عمراً والأكثر معرفة بتفاصيل الحياة في هذه الأسواق.

التقينا الحاج "محمد مصفي العسل" الذي ما زال يعمل بهمة الشباب رغم بلوغه الثمانين من العمر دون أن تستطيع الأزياء الحديثة أن تجعله يتخلى عن اللباس الحلبي التقليدي، فكان اللقاء التالي:

بالرغم من التراجع في النشاط والحركة التجارية في السوق هذه الأيام إلا أنّ عشق المهنة يبقى أقوى، لذلك سأواصل مع أبنائي وأحفادي -إن شاء الله- في الاستمرار بالعمل في هذه المهنة التي أعتبر أنّ قيمتها المعنوية أكبر بكثير من قيمتها المادية فهي تشكل التراث والتاريخ لمدينة "حلب "و"سورية" بشكل عام

  • في البداية عرفنا بنفسك حاج "محمد" ومنذ متى وأنت تعمل في التجارة؟؟
  • السوق القديم

    ** أنا "محمد مصفي العسل" من مواليد مدينة "حلب" في العام 1930، أحمل شهادة الدراسة الابتدائية التي حصلت عليها في مدرسة "العرفان" في الأربعينيات من القرن الماضي ورغم أني لا أحمل سوى تلك الشهادة المتواضعة بحسب مفهوم هذه الأيام إلا أنني أتكلم اللغات العربية والفرنسية والتركية».

    أنا أعمل في مهنة التجارة منذ طفولتي وهي مهنة آبائي وأجدادي التي ورثتها عنهم فتاريخ هذا المحل يعود إلى حوالي 200 سنة و ما زالت الحركة والنشاط تدب فيه منذ تلك الفترة .

    حركة البيع

  • ما هي البضائع التي تتاجر فيها؟
  • **نحن نعمل منذ القدم في تجارة التحف الفنية والبسط والسجاد التي تُسمى بالشرقيات وهي تجارة عشقتها منذ صغري وذلك دفعني كي أستمر وأبدع فيها، فمن لا يعشق الشرقيات لا يستطيع أن يعمل بها.

    إحدى زوايا المحل

  • قلت أنك في هذا السوق منذ طفولتك فهل لديك فكرة عن معنى اسم "سوق الحراج"؟
  • **يقال ُبأنّ الاسم مستمد من كلمة التحريج وتعني /المناداة على الشيء/ والمعروف أنّه كان يُقام في هذا السوق قديماً "حراج" أي "مزاد" وذلك على البضائع المختلفة من السجاد والألبسة والأقمشة والتحف وغيرها وذلك في كل يوم اثنين وخميس من الأسبوع، وقد كان في السوق حوالي خمسة وعشرون دلالاً معروفاً يمارسون أعمالهم، والعرف الذي كان سائداً في تلك الأيام هو أنّ الدلالين كانوا يقرؤون الفاتحة في كل صباح مع بداية دوامهم في السوق وذلك على نية التيسير والتوفيق والبركة ثم يبدأ المزاد ليبدؤوا بالمناداة، وهناك من يقول بأنّ سبب التسمية يعود إلى أنّ السوق قديماً /قبل دخولنا إليه/ كانت تباع فيه أنواع الفحوم والحطب الناتجة عن حرق الغابات والأشجار الحراجية.

    في فترة الاحتلال الفرنسي كان يُباع في السوق السلاح والألبسة من شراويل وطرابيش وقمبازات وصدريات وغيرها ولكن بعد جلاء الفرنسيين عن البلد أُلغي بيع السلاح فيه بينما تم الاستمرار في بيع الألبسة، أما اليوم فيوجد في السوق حوالي خمسة وعشرون محلاً تجارياً تُباع فيها مختلف أنواع البضائع من السجاد والبسط والألبسة والأواني الزجاجية والنحاسية والقباقيب والشرقيات وغيرها».

  • متى انقرض نشاط الدلالين من السوق؟
  • **انقرضت هذه المهنة من السوق منذ حوالي عشرين سنة ففي العام 1990 توفي آخر دلال فيه، والسبب فتح الكثير من المحلات خارج السوق، وكذلك عدم وجود مرآب فيه لوقوف السيارات والآليات الأمر الذي جعل الناس يحجمون عن المجيء إلى أسواق المدينة كالسابق عموماً».

  • بماذا تحدثنا عن أجواء السوق اجتماعياً؟
  • ** "سوق الحراج" مثل جميع أسواق المدينة كان قديماً وما زال يشكل بيتاً لجميع أصحاب المحلات والتجار فيه والجميع هنا يشعرون بأنهم أسرة واحدة وعائلة واحدة، فمثلاً إذا وقع أي تاجر في السوق في ضائقة مالية يقوم التجار وأصحاب المحلات بمساعدته مباشرة دون أن يشعر بتلك الضائقة بالرغم من أن هذه الروح تراجعت قليلاً ولكنها ما زالت موجودة وتفرض حالها على تجار السوق.

    ومن الحوادث الاجتماعية الجميلة التي كانت سائدة في السوق في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي هي السيرانات المشتركة بين تجار السوق حيث كنا نخرج للتنزه إلى البساتين المجاورة للمدينة وإلى ضفاف "نهر قويق" لنقضي أوقاتاً رائعة، والعرف السائد حينها كان إغلاق المحال في عصر يوم الخميس ويوم الجمعة.

  • بماذا تحدثنا عن تجارة السجاد في السوق؟
  • **كان السجاد الذي يُباع في السوق قبل أكثر من أربعين سنة محلياً مصنوعاً بأيدي "سورية" وكانت الأنواع المشهورة حينها البسط الكردية، وكانت تُصنّع في منطقة "عفرين" و"جبل ليلون" والبسط الجزراوية وكانت تُصنّع في الجزيرة السورية والبسط الحلبي وغيرها، هذه البسط والسجادات انقرضت صناعتها اليوم وأصبحت جزءا من تراث بلدنا، لكنها مازالت موجودة ويتم المتاجرة بها في السوق».

  • ما الذي اختلف في الحركة والنشاط التجاريين في السوق قديماً وحديثاً؟
  • ** حركة السوق قديماً كانت أفضل من هذه الأيام والسبب في ذلك هو أنّ جميع أنواع البضائع كانت ُتباع في أسواق المدينة بشكل حصري ولذلك كانت تشهد حركة كثيفة جداً وبشكل يومي سواء من أهل المدينة أو من القرى المجاورة، وفي أيام شهر رمضان المبارك كانت الأسواق تفتح حتى الفجر، وكان هناك مثل يقول: /لو شلفت التراب على الناس ما تصل للأرض/ بسبب الزحمة الشديدة. ومع مرور الزمن توسعت المدينة وكثرت المحلات وحلت المنافسة فأدى ذلك وبشكل طبيعي إلى تراجع النشاط التجاري في السوق، وُيضاف إلى ذلك إهمال الأدلاء السياحيين للسوق والاهتمام بالمحور الرئيسي الذي يصل بين القلعة و"باب إنطاكية".

  • كيف كان يتم التبادل التجاري بين التجار قبل إصدار العملة السورية؟
  • **كان هناك المجيدي /نسبة للسلطان العثماني "مجيد"/ والرشادي /نسبة للسلطان العثماني "رشاد"/ وكانت متداولة حتى دخول الانكليز للبلد في نهاية الحرب العالمية الأولى والذين أصدروا عملة انكليزية ثم وبعد الاحتلال الفرنسي تم في الأربعينيات من القرن الماضي إلغاء العملات السابقة وإصدار العملات الورقية وكانت في البداية موحدة وصادرة عن بنك "سورية" و"لبنان" ثم صدرت الليرة السورية الفضية والورقية.

  • سمعنا بأنّ عدداً من الشخصيات الهامة زارت محلك التجاري، هل هذا صحيح؟
  • **نعم، لقد تشرفت في العام 2006 بزيارة السيد الرئيس "بشار الأسد" وضيفه الملك "خوان كارلوس" ملك "اسبانية"، وفي العام 1988 زار المحل الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر" إضافةً إلى عدد من المسؤولين الأتراك.

    * كلمة أخيرة؟

    ** «بالرغم من التراجع في النشاط والحركة التجارية في السوق هذه الأيام إلا أنّ عشق المهنة يبقى أقوى، لذلك سأواصل مع أبنائي وأحفادي -إن شاء الله- في الاستمرار بالعمل في هذه المهنة التي أعتبر أنّ قيمتها المعنوية أكبر بكثير من قيمتها المادية فهي تشكل التراث والتاريخ لمدينة "حلب "و"سورية" بشكل عام».